قال علي عليه‌السلام : إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا؛ امير مومنان عليه‌السلام مي‌فرمايند: همانا براي شما بهايي جز بهشت نيست، پس به کمتر از آن نفروشيد. (نهج‌البلاغه، حکمت456)

 

المرحلة السادسة

الفصل الأوّل

109 ـ قوله «وهي المسمّاة بالمقولات»

سمّيت بذلك لأنّها تحمل على الأشياء حملاً ذاتيّاً ولا يحمل عليها شيء كذلك لأنّه ليس فوقها جنس. وأمّا حمل الفصول عليها فقد مرّ أنّه حمل عرضيّ.

110 ـ قوله «فلا يكون شيء واحدٌ جوهراً وكماً معاً»

وزعم قوم جواز كون شيء واحد جوهراً وعرضاً، ولهم شبهات ذكرها في الأسفار وأجاب عليها.(1)

111 ـ قوله «إنّ المقولات عشر»

وأوّل من أحصاها هو المعلّم الأوّل في كتابه «قاطيغورياس»(2) (= المقولات) وكذا في كتابه «طوبيقا» (= الجدل) وصرّح في الثاني بأنّ عدّتها عشرة،(3) ونقل عنه أتباع المشّائين من فلاسفة المسلمين، وحكى أبوالبركات البغداديّ عنه أنّ الأجناس العالية


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌280ـ285؛ وراجع: الفصل السادس من المقالة الاُولى من قاطيغورياس الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌297؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌161ـ164؛ والقبسات: ص‌‌4045.

2. راجع: منطق أرسطو: الجزء الأول، ص‌‌35.

3. راجع: نفس المصدر: الجزء الثاني، ص‌‌502.

عشرة، تسعة منها اعراض، منها وجوديّة كالبياض والسواد والطول والعرض والعدد ونحوها، ومنها ذهنيّة كالنسب والإضافات.(1) لكن قال شيخ الإشراق ما لفظه «وأمّا المقولات فليست مأخوذة عن المعلّم بل عن شخص فيثاغوريّ له «أرخوطس» وليس له برهان على الحصر في العشرة».(2) ولعلّه وقف على كتاب لأرخوطس باسم المقولات فظنّ أنّه نفس الكتاب الذي ينسب إلى أرسطو. قال الحسن بن سوار «ويقال إنّ أرخوطس رسم كتابه في المقولات وهو يتضمّن المعاني التي يتضمّنها كتاب أرسطوطاليس هذا إلاّ معاني يسيرة في الأقاويل الكلّيّة...».(3) وكيف كان فلا ينبغي التشكّك في نسبة المقولات العشر إلى أرسطو.

وقال صدر المتألّهين: «إنّ المراد من انحصار الأشياء فيها أنّ كلّ ما له من الأشياء حدٌّ نوعيٌ فهو منحصر في هذه المقولات بالذات، ولا يجب أن ‌يكون لكلّ شيء حدٌّ وإلاّ يلزم الدور أو التسلسل»(4) وقال في موضع آخر: «إنّه لا مقولة خارجة عن هذه العشرة، والشيخ احتجّ على ذلك بحجّة ضعيفة اعترف برداءتها ولذلك طويناها» ثمّ تعرّض لكيفيّة خروج الوحدة والنقطة والآن والوجود والشيئيّة والحركة والاعتبارات العامّة وكذلك الفصول البسيطة والمشتقّات والأعدام منها، وقال في آخر كلامه «والشيخ قد سلّم خروج هذه الاُمور عن المقولات العشر، وذلك لا يناقض دعوى عشريّة الأجناس العالية، فإنّ الدعوى أنّ كلَّ ما كانت له مهيّة متحصّلة من جنس وفصل فهو تحت إحدى هذه المقولات. فالبسائط كنفس الاجناس العالية والفصول الأخيرة والأنواع البسيطة والهويّات الشخصيّة خروجها غير قادح في الحصر».(5)


1. راجع: المعتبر: ج‌3، ص‌‌14؛ وراجع: التعليقات: ص‌‌174 و 175.

2. راجع: التلويحات: ص‌‌12.

3. راجع: تعليقة الحسن بن سوار على ترجمة كتاب المقولات في منطق أرسطو: ج‌1، ص‌‌79.

4. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌41.

5. راجع: نفس المصدر: ج‌4، ص‌‌6.

وقال الشيخ في موضع من الشفاء: «وأمّا نحن فلا نتشدَّد كلَّ التشدُّد في حفظ القانون المشهور من أنّ الأجناس عشرة، وأنّ كلّ واحد منها حقيقيُّ الجنسيّة، ولا شيء خارج منها».(1)

112 ـ قوله «ومفهوم العرض...»

الفرق بين مفهوم العرض ومفهوم الجوهر بأنّ الأوّل منتزع من نحو وجود الشيء دون الثاني تحكّم، فإنّ الجوهر هو الذي يوجد لا في موضوع والعرض هو الذي يوجد في موضوع، ولازمه أن‌يكون كلاهما من الاعتبارات العقليّة والمعقولات الثانية الفلسفيّة كما اختار في حكمة الإشراق، وقال في التحصيل: «ولعلّ نسبة الجوهر إلى ما تحته في أنّ الجوهر لازم نسبة العرض إلى ما تحته ـ إلى أن قال ـ فيشبه أن‌ يكون الجوهريّة من لوازم الجسم وغيره ممّا هو تحت الجوهر».(2) ومن جانب آخر فقد أنهى المقولات في القبسات إلى مقولتين هما الجوهر والعرض حيث قال في كلام له «فإذن لمقولات الجائزات جنسان أقصيان، وكلّ حقيقة متأصّلة من المهيّات الممكنة تحت أحد ذينك الجنسين الأقصيين لا محالة فليتثبّت».(3) وقال في المطارحات بعد ذكر المقولات العشر والمناقشة فيها: «ويكفي تقسيم المهيّات إلى جوهر وهيئة».(4)

113 ـ قوله «وعن بعضهم ان المقولات أربع»

هو عمر بن سهلان الساوجيّ صاحب البصائر.(5)


1. راجع: الفصل الثاني من المقالة الثانية من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء: ص‌‌42؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌169ـ171.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌61 و 71.

3. راجع: القبسات: ص‌‌40.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌281.

5. راجع: نفس المصدر: ص‌‌278.

114 ـ قوله «وعن شيخ الإشراق....»

قال في التلويحات: «ولمّا كان المحمول عليه الوجود إمّا موجوداً لا في موضوع وهو الجوهر وإمّا موجودا فيه إمّا غير قارّ الذاتكالحركة،أو قارَّها الذي لايعقل إلاّ مع الغير وهو المضاف، والقارُّ الغيرالإضافيإمّا أن‌ يوجب لذاته التجزيّ والنسبة وهيالكمية، أو لا يوجب لذاته ذانّك وهو الكيف، فانحصرت الاُمّهات من المقولات في خمسة».(1)

الفصل الثاني

115 ـ قوله «وتقييد الموضوع بكونه مستغنياً عنه...»

قد اصطلحوا على الفرق بين المحلّ والموضوع باختصاص الموضوع بما هو مستغنٍ عمّا يوجد فيه، وعلى ذلك يكون قيد الاستغناء توضيحيّاً.(2) وقد نسب شيخ الإشراق إلى القدماء تعريف الجوهر بالموجود لا في محلّ.(3) وقد يطلق الجوهر على الوجود الذي يسلب عنه الكون في الموضوع وإن لم ‌يكن له مهيّة. قال الشيخ في النجاة «لو قال قائل في الأوّل ـ بلا تحاشٍ ـ إنّه جوهر لم ‌يَعنِ إلاّ هذا الوجود وأنّه مسلوب عنه الكون في الموضوع».(4)

116 ـ قوله «كما تقدّمت الإشارة إليه»

وذلك في الفصل السادس من المرحلة الخامسة.(5)


1. راجع: التلويحات: ص‌‌11.

2. راجع: الفصل الاول من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ والتحصيل: ص‌‌296؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌229ـ234.

3. راجع: المقاومات: ص‌‌129؛ والمطارحات: ص‌‌220.

4. راجع: النجاة: ص‌‌251.

5. وراجع: هذه التعليقة: الرقم 104 و 105.

117 ـ قوله «ومن الأعراض ما لا ريب في عرضيّته»

المتيقَّن من الموجودات العرضيّة هو الكيف النفسانيّ المعلوم بالعلم الحضوريّ ويليه الكيف المحسوس في الجملة. ونقل في الشفاء أقوالاً من بعض القدماء بجوهريّة الكم والكيف.(1)

118 ـ قوله «لأنّ كون المهيّات العرضيّة...»

حاصل الحجّة أنّ العرض قائم بالموضوع، فإن كان الموضوع نفسه قائماً بموضوع آخَرَ من غير أن‌ ينتهي إلى ما حيثيّة ذاته حيثيّة الاستغناء عن الموضوع لتسلسل. فهناك مهيّةٌ حيثيّةُ ذاتها أنّها لا في موضوع، وبعبارة اُخرى: كونها لا في موضوع، ذاتيٌّ لها أو كاشف عن معنى ذاتيّ، وهذا بعينه معنى كون الجوهر جنساً لما يندرج تحته.

ويلاحظ عليها أنّ قيام العرض بالموضوع يستلزم وجود ما لا يحتاج إلى موضوع، لكن لا يستلزم كون الجوهر معنى جنسيّاً، بل يكفي أن ‌يكون موضوع العرض بحيث ينتزع العقل عنه هذا المفهوم، وبعبارة اُخرى: يكفي أن ‌‌يكون الجوهر ذاتيّاً لموضوع العرض باصطلاح كتاب البرهان كالإمكان للموجودات الممكنة والوجوب للواجب تعالى، والعرض للمهيّات العرضيّة، ولا يلزم أن‌‌ يكون ذاتيّاً باصطلاح كتاب إيساغوجي.

119 ـ قوله «جامعاً ماهويّاً»

مفعول لِ‍ »استلزم» في الموردين.

120 ـ قوله «وانتهت المهيّات إلى مقولتين»

قد عرفت أنّه لا دليل على فساد هذا التالي، والأولى النقض بالإمكان الذي هو


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء.

معنى وحدانيّ منتزع عن جميع الجواهر والأعراض، فيلزم كونه جنساً مشتركاً بينها، بل النقض بمفهوم الوجود المشترك بين الواجب والممكنات.

121 ـ قوله «فالمعوّل في إثبات...»

كتب الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) في هامش الكتاب «كون وجود العرض لغيره (ناعتاً للغير) معنى سلبيّ ـ إلخ ـ » ويلاحظ عليه أنّ كونه معنىً سلبيّاً ممنوع، بل لقائل أن‌ يعكس الأمر فيقول «كون وجود الجوهر لا في موضوع، معنىً سلبيٌ» قال الشيخ في إلهيّات الشفاء «وليس معنى جوهريّتها إلاّ أنّها أمر ليس في موضوع ـ إلى أن قال ـ وأمّا أنّه ليس في موضوع فهو سلب».(1) ومع التسليم فعدم اقتضاء المهيّة للمعنى السلبيّ ممنوع ومنتقض بالإمكان الذي هو سلب الضرورتين على ما صرّح به. ويستفاد من كلامه هذا أنّ المفهوم الجامع إذا كان مفهوماً إيجابيّاً كان ذاتيّاً أو لازماً للذات بحيث يكشف عن وحدة ماهويّة، لكنّه ممنوع ومنتقض بمفهوم الوجود، فليتأمّل.

الفصل الثالث

122 ـ قوله «قالوا إنّ الجوهر...»

هذا التقسيم للمشّائين،(2) وهو مبنيٌ على وجود الهيولى كجزء للمهيّات الجوهريّة المادّية، ولابدّ من جزء آخَرَ لها هو الصورة، ومع إنكارها ـ على ما ذهب إليه الإشراقيّون والمحقّق الطوسيّ ـ تصير الأقسام ثلاثة: المجرّدات التامّة، والنفوس، والأجسام. ويمكن إلحاق قسم آخر إليها وهو الجواهر المثاليّة (البرزخيّة) التي لها


1. راجع: الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌84.

2. راجع: آخر الفصل الاول من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين علي إلهيّات الشفاء: ص‌‌47.

صفات الأجسام على نعت الثبات. وقولهم «ذا علاقة انفعاليّة» احتراز عن العلاقة الفعليّة التي للعقول. وقال في التلويحات: «وأقسام الجوهر أربعة: جسم، وجزءاه الهيولى والصورة، والخارج من هذه الأقسام الثلاثة المفارقات»(1) وكلامه هذا مبتنٍ على مماشاة المشّائين، وإلاّ فهو من المنكرين لوجود الهيولى.

123 ـ قوله «على أنّك قد عرفت...»

قد مرّ الكلام فيه تحت الرقم (104 و 105).

124 ـ قوله «ثمّ قال مشيراً...»

حاصل وجه الأجوديّة أنّ الكائن في المحلّ لا يختصّ بالصور الماديّة، فإنّ الصور الإدراكيّة أيضاً حالّة في النفوس.(2) ولا يخفى أنّ الصور الإدراكيّة من قبيل الكيفيّات النفسانيّة عند المشهور، فهي خارجة عن المقسم، وأمّا القول الآخر فتقييمه موكول إلى محلّه.

125 ـ قوله «على أنّ عطف...»

من الواضح أنّ التقسيم الأوّليّ للجوهر لابدّ وأن ‌يكون شاملاً لجميع الجواهر، فالمراد بالصورة الماديّة جميع الصور المنطبعة في المادة لا الصورة الجسميّة (أي الاتّصال الجوهريّ على حدّ تعبيرهم) خاصّةً، وعطف الصور الطبيعيّة (أي العنصرية والمعدنيّة وغيرها) على الامتداديّة (أي الصورة الجسميّة) إشارة إلى هذا التعميم، وليس بصدد تقسيم ثانويّ حتّى يرد عليه مثل هذا الإشكال.


1. راجع: التلويحات: ص‌‌6؛ والمطارحات: ص‌‌221.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌234؛ وج5: ص‌‌70.

الفصل الرابع: ماهيّةالجسم(1)

126 ـ قوله «ونسب إلى أفلاطون»

وينسب إلى الرواقيّين، وبه قال في حكمة الإشراق.(2)

127 ـ قوله «ونسب إلى شيخ الإشراق»

وهو ظاهر كلامه في التلويحات،(3) وقد تصدّى الشرّاح للجمع بين قوليه.(4)

128 ـ قوله «ومثله كلّ وسط مفروض»

أي من الأجزاء التي لا تتجزّى، يعني أنّه كلّما ازداد الوسط عدداً لم ‌يؤثّر في الحجب شيئاً.(5)

129 ـ قوله «قال الشيخ في الشفاء»(6)

وقد ذكر تفصيل القول في انقسام الأجسام في الطبيعيّات،(7) وقد تصدّى صدر المتألّهين لإثبات أنّ هذه المسألة من مسائل الفلسفة الاُولى، وإنّما تعرّض الشيخ لها في الطبيعيات باعتبار كونها من مبادئ علم الطبيعة.(8)


1. راجع: الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌48؛ والأسفار، ج‌57، ص‌‌2ـ16؛ والقبسات: ص‌‌183ـ204.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌80 و 88.

3. راجع: التلويحات: ص‌‌14.

4. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌17ـ18.

5. راجع: النمط الأول من شرح الإشارات؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌2946.

6. راجع: الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌21.

7. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من الفن الأول من طبيعيات الشفاء: ص‌‌85ـ95.

8. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌27؛ والقبسات: ص‌‌191.

130 ـ قوله «نعم لو سلّم...»

حقيقة الطاقة ليست معلومة بعدُ بحيث يمكن تقديم تفسير فلسفيّ قاطع لها، وبناءً على كون الأجسام المتعارفة (المادّة الفيزيائيّة) حاصلة من تراكم الطاقات، لا تخرج الطاقة عن حدّ الجسم ـ بالاصطلاح الفلسفيّ ـ حتّى يستلزم فرض جنس فوقه، لاستحاله تركّب ما يقبل الأبعاد الثلاثة ممّا ليس كذلك وقد أشار في الأسفار إلى قول شاذّ بأنّ الماء رطوبة متراكمة، وان التراب يبوسة متراكمة.(1)

الفصل الخامس

131 ـ قوله «في ماهيّة المادّة»

لا ريب في أنّ الموجودات الماديّة تتبدّل إلى موجودات ماديّة اُخرى، فتتجدّد لها آثار خاصّة. فالمتبدَّل منه يسمَّى بالقياس إلى المتبدَّل إليه مادّة وهيولى، وإذا كان المتبدَّل منه نفسُه متبدّلاً من موجود آخَرَ كان الموجود الأسبق مادّة بالنسبة إلى السابق، وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لم يتبدّل من موجود آخَرَ فيسمَّى بالهيولى الاُولى ومادّة الموادّ.

ثمّ إنّ المتبدّل إليه ليس مبائناً للمتبدّل منه بالكلّية،(2) وإلاّ لم يكن التبدّل إلاّ عبارة عن انتفاء موجود وتحقّق موجود آخر، فلابدّ من أمر مشترك بينهما.(3) وهذا الأمر المشترك لا يخلو من أن يكون كلَّ المتبدَّل منه، أو كلَّ المتبدَّل إليه، أو بعضاً من كليهما. ولا يجوز أن يكون كلَّ كليهما وإلاّ لم يحصل تبدُّل، ولا أمراً يباينهما بالكلّية لاستلزامه خلاف الفرض، كيف وقد فرضناه أمراً مشتركاً بينهما. فعلى الأوّل يكون المتبدَّل إليه واجداً لكلّ المتبدَّل منه مع أمر زائد عليه كالعناصر المتبدَّلة إلى النبات


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌67.

2. راجع: حول معنى التبدّل والانقلاب الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء.

3. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌65؛ والمعتبر: ج‌3، ص‌‌201.

مثلاً، وعلى الثاني يكون بالعكس كالنبات المتبدّل إلى عناصره الأوّليّة، وعلى الثالث يفقد المتبدّل جزءاً ويحصل على جزء آخر، كما يقال في تبدّل الماء بخاراً إنّ الصورة المائيّة تفسد وتحدث الصورة البخاريّة مكانَها أي في المادّة الباقية من الماء.

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ الجزء المشترك هل هو موجود بالفعل في كلتا الحالتين أو يكون فعليّته رهنَ الجزء الآخر بحيث يكون كلّ من المتبدَّل منه والمتبدَّل إليه ذا فعليّة واحدة هي فعليّة الصورة فقط، فإن جاز كون الأمر المشترك باقياً بفعليته فيهما أمكن القول بكون الهيولى الاُولى موجوداً بالفعل باقياً بعينه في المركّبات والمواليد، وهذا هو القول المنسوب إلى أفلاطون وأشياعه من الرواقيّين ـ على ما نسب إليهم ـ ومن تبعهم من فلاسفة المسلمين كشيخ الإشراق والمحقّق الطوسيّ وغيرهما،(1) وإن لم يجز ذلك تعيّن القول بكون المادّة المشتركة أمراً بالقوّة، وإنّما تصير بالفعل بفضل الصور المتعاقبة عليها، وبالتالي تكون الهيولى الاُولى في ذاتها فاقدة للفعليّة، وتتحصّل بالفعل بعرض الصورة الجسميّة الملازمة لها، وهذا هو الذي ينسب إلى أرسطو(2) وأشياعه، وإليه ذهب أكثر فلاسفة المسلمين كالفارابيّ والشيخ الرئيس وصدر المتألّهين.

وللهيولى اصطلاحات اُخرى حسب الاعتبارات المختلفة، قال الشيخ: «وهذه الهيولى من جهة أنّها بالقوّة قابل لصورة أو لصور يسمَّى هيولى لها، ومن جهة أنّها بالفعل حاملة لصورة يسمَّى في هذا الموضع «موضوعاً» لها ـ وليس معنى الموضوع ههنا معنى الموضوع الذي أخذناه في المنطق جزءَ رسمِ الجوهر، فإنّ الهيولى لا تكون موضوعاً بذلك المعنى البتّة، هذا ـ ومن جهة أنّها مشتركة للصور كلّها تسمّى «مادّة طينة» ولأنّها منحلّ إليها بالتحليل فتكون هي الجزء البسيط القابل


1. وبه قال أبوالبركات في المعتبر، ج‌3، ص‌‌195.

2. وانكر ابوالبركات نسبة القول بان الهيولى قوة محضة إلى أرسطو. فراجع: المعتبر: ج‌3، ص‌‌200.

للصورة من جملة المركّب يسمّى «اُسطقساً» وكذلك كلّ ما يجري في ذلك مجراها، ولأنّها يبتدئ منها التركيب في هذا المعنى بعينه يسمّى «عنصراً» وكذلك كلّ ما يجري في ذلك مجراها، فكأنّها إذ ابتدئ منها يسمَّى عنصراً وإذا ابتدئ من المركّب وانتهى إليها يسمَّى اُسطقساً، إذ الاُسطقس هو أبسط أجزاء المركّب».(1)

وقال صدر المتألّهين: «وربما يتركون هذه الاصطلاحات فيطلقون لفظ الهيولى على ما للفلك من الجزء القابل وإن كان ذلك القابل أبداً بالفعل، وكذلك يسمّونه مادّة مع أنّ مادّة كلّ واحد من الفلكيّات مخصوصة به».(2)

132 ـ قوله «لا ريب أنّ الجسم...»

قد ظهر من البيان السابق أنّ أساس النزاع في مسألة الهيولى هو أنّه هل يوجد في الأجسام جزء يكون في ذاته أمراً بالقوّة فاقداً لأيّ فعليّة سوى فعليّة أن لا فعليّة له ـ على حدّ تعبيرهم ـ أو لا؟ وقد يعبّر عنه بالاختلاف في وجود الهيولى الاُولى وعدمها، كما قد يعبّر عنه بأنّ الجسم هل هو الهيولى الاُولى أو هو هيولى ثانية مركّبة من جزء غير متحصّل هو الهيولى الاُولى وآخَرَ متحصّلِ هو الصورة الجسميّة. وقد عرفت أنّ المشّائين وأتباعهم قائلون بكون الجسم مادّة ثانية مركّبة من الهيولى الاُولى والصورة الجسميّة، وقد أقاموا على ذلك حجّتين معروفتين ببرهان الوصل والفصل وبرهان القوّة والفعل، وقد بيّنهما الشيخ في إلهيّات الشفاء(3) وصدر المتألّهين في الأسفار مع أبحاث تتعلّق بهما،(4) وتعرّض


1. راجع: الفصل الثاني من المقالة الاُولى من الفنّ الاول من طبيعيّات الشفاء: ص‌‌5.

2. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌216؛ وراجع: المعتبر: ص‌‌10ـ15.

3. راجع: الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌5565؛ وراجع: النمط الأول من شرح الإشارات؛ وراجع: النجاة: ص‌‌202.

4. راجع: الأسفار: ج5، ص‌‌77ـ119.

لحجج ضعيفة اُخرى ولما يرد عليها،(1) كما أنّه تعرّض لإشكالات شيخ الإشراق والإجابة عليها.(2)

وقد عوّل الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) على البرهان الثاني، وحاصله أن للجسم حيثيّتين: إحداهما حيثيّة كونه أمراً بالفعل، والاُخرى حيثيّة كونه قابلاً للصور والأعراض اللاحقة به، وهما حيثيّتان متباينتان، فلابدّ من كونه مركّباً من أمرين عينيّين وهما الهيولى الّتي حيثيّة ذاتها حيثيّة القوّة والقبول، والآخر هو الصورة الجمسيّة التي بها فعليّة الجسم.(3) ثمّ تعرّض لإشكالات اُوردت على الحجّة وتصدّى للإجابة عليها.

وحيث إنّ مدار الاستدلال والإشكال والجواب على مفاهيم القوّة والإمكان والاستعداد ينبغي الإشارة إلى معاني هذه الألفاظ، فنقول: أمّا الإمكان.(4) فقد مرّ شرح معانيه في الفصل الاوّل من المرحلة الرابعة في المتن، ومنها الإمكان الاستعداديّ الذي يعدّونه من مقولة الكيف كما سيأتي بيانه في الفصل الرابع عشر من هذه المرحلة، وقد أشرنا سابقاً (تحت الرقم 60) إلى أنّ الحقّ كونه من المفاهيم الانتزاعيّة.

وأمّا الاستعداد فقد قيل إنّه من مقولة الإضافة، وقيل إنّه كيفيّة ذات إضافة، ويفترق الإمكان الاستعداديّ عن الاستعداد بلحاظ النسبة إلى المستعدّ له في الأوّل وإلى المستعدّ في الثاني.

وأمّا القوّة فلها معانٍ مختلفةٌ أيضاً،(5) ومن جملتها ما ينطبق على الإمكان


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌119ـ128.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌71ـ77.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌110.

4. راجع: النمط الخامس من شرح الإشارات؛ وراجع: التلويحات: ص‌‌4850.

5. راجع: الفصل الثاني من المقالة الرابعة: والفصل الرابع من المقالة السادسة؛ والفصل الأوّل من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌161؛ والنجاة: ص‌‌214؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌25؛ والتلويحات: ص‌‌31؛ والمطارحات: ص‌‌320؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌379؛ وراجع: المرحلة التاسعة في المتن.

الاستعداديّ، وقد ذكروا وجوهاً للفرق بين القوّة والاستعداد،(1) من أهمّها اختصاص الاستعداد بالمعنى العرضيّ وشمول القوّة للمعنى الجوهريّ الذي ينطبق على الهيولى الاُولى، وذكروا أنّ النسبة بين القوّة الجوهريّة والقوّة العرضيّة هي النسبة بين الجسم الطبيعيّ والجسم التعليميّ. وقد تستعمل القوّة بمعنى أخصَّ من الإمكان الاستعداديّ وهي القوّة بمعنى المقاومة وصعوبة الانفعال، ويقابلها اللاقوّة بمعنى عدم المقاومة وسهولة الانفعال، ويعمّهما الإمكان الاستعداديّ، كما أنّها قد تستعمل بمعنى أعمَّ من الإمكان الاستعداديّ حيث تستعمل بمعنى مطلق الاستعداد في حين يخصّ الإمكان الاستعداديّ بالاستعداد الشديد.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّهم اعتبروا استعداد الجسم لصيرورته شيئاً آخر عرضاً قائماً به، وقالوا إنّ الجسم بما أنّه أمر بالفعل (أي الاتّصال الجوهريّ على حدّ تعبيرهم) لا يصلح أن يكون حاملاً للقوّة والاستعداد، ففيه حيثيّة اُخرى جوهريّة حاملة لهذه القوّة العرضيّة، وهي الهيولى الاُولى التي حيثيّة ذاتها حيثيّة قوّة جميع الصور الممكنة اللحوق بها، ولا فعليّة لها في ذاتها، ونسبة الهيولى إلى جميع الصور متساوية وإنّما تتعيّن صورة خاصّة لها بعروض قوّة عرضيّة خاصّة لها، فالقوّة الجوهريّة المبهمة تتعيّن باستعدادات عرضيّة، كما أنّ الجسم الطبيعيّ (وهو الاتّصال الجوهريّ غير المتعيّن) يتحدّد بعروض الجسم التعليميّ له.(2)

ويلاحظ عليه أوّلا أنّ القوّة والإمكان الاستعداديّ مفهوم يتنزعه العقل عن حصول شرائط الشيء قبل تحقّقه نفسِه، وليس أمراً عينيّاً حتى يحتاج إلى محلّ يحلّ فيه. توضيح ذلك أنّ التجارب تهدينا إلى أنّ تحقُّق كلّ حادث منوط بحصول اُمور


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌75؛ وراجع: المبدء والمعاد لصدرالمتألّهين: ص‌‌318.

2. ولتحقيق معنى الجسم التعليميّ راجع: الفصل الثاني من المقالة الثانية؛ والفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌54 و 101؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌311؛ و الأسفار: ج‌5، ص‌‌86ـ90.

فيه وارتفاع اُمور اُخرى عنه، وبعد معرفة ذلك نعتبر المادّة الواجدة للشرائط والفائدة للموانع مستعدّةً لتحقّق الحادث المعيّن استعداداً تامّاً، وإذا كانت واجدة لبعض الموانع أو فاقدة لبعض الشرائط نعتبرها مستعدّة له استعداداً ناقصاً. وحسب اختلاف الشرائط الموجودة كثرةً وقلّةً تختلف القوّة والاستعداد شدّةً وضعفاً، وتماماً ونقصاً، وقرباً وبعداً. ولا نعني بقرب استعداد الجنين للحياة وبُعد استعداد النطفة لها مثلاً إلاّ أنّ الشرائط الحاصلة في الجنين أكثر منها في النطفة،(1) وليس وراء تلك الشرائط عرض آخَرُ يحل فيه يُسمي بالقوة الاستعدادي وحيث إنَّ حصول الشرائط. تدريجيٌ عادةً يعتبر الاستعداد أمراً يشتدّ شيئاً فشيئاً، وهذا هو الذي يوهم أنّه أمر عينيٌ يسير من الضعف إلى الشدّة، ومن النقص إلي التمام، ومن البُعد إلى القرب. وليس كذلك في الواقع، كيف وقد يكون في منشأ انتزاعه اُمور عدميّة كارتفاع الموانع.

وجدير بالذكر أنّ صدر المتألّهين بالرغم من تأكيده في عدّة مواضع من كتبه على كون الإمكان الاستعداديّ عرضاً قائماً بالموضوع، صرّح في موضع من الأسفار بأنّ مرجع الإمكان الاستعدادي إلى زوال المانع والضدّ إمّا بالكلّية وهو القوّة القريبة أو بالبعض وهو القوّة البعيدة.(2) وصرّح في المبدء والمعاد بأنّ معنى وجود الاستعداد في الخارج اتّصاف الشيء الخارجيّ به،(3) ممّا هو كالصريح في أنّه من المعقولات الثانية الفلسفيّة لا من المعقولات الاُولى المندرجة في المقولات الماهويّة.

وثانيا أنّهم يعتبرون حدوث كلّ حادث جوهريّ أو عرضيّ متوقّفاً على حصول استعداد في المادّة، فلو كان الاستعداد عرضاً عينيّاً لتوقّف حدوثه على حصول استعداد آخر وهكذا، فيلزم أن تحصل استعدادات وقوىً غيرُ متناهية لحدوث شيء ما، وهو كما ترى.


1. راجع: المسألة الخامسة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌376.

3. راجع: المبدء والمعاد لصدر المتألّهين: ص‌‌318ـ319.

لا يقال: إنّما يلزم التسلسل إذا لم تنتهِ سلسلة القوى إلى ما حيثيّة ذاتها حيثيّة القوّة.

فإنّه يقال: الكلام في القوى العرضيّة التي تتعيّن بها القوّة الجوهريّة (أي الهيولى) فلو كان عروض كلّ قوّة عرضيّة متوقّفاً على حصول استعداد لها لزم التسلسل، ولا يجدي كون الهيولى قوّة محضة لكلّ الصور والأعراض، لخروجها عن تلك السلسلة.

لا يقال: إنّ الهيولى تستدعي بذاتها قوة عرضيّة خاصّة، ثمّ تصير هي واسطة لاستعدادها لغيرها من الصور والأعراض.

فإنّه يقال: نسبة الهيولى إلى جميع ما يحلّ فيها متساوية على الفرض، فلا معنى لاستدعائها لعرض معيّن، مضافاً إلى أنّ هذا الفرض يستلزم قِدم ذلك العرض بقِدم الهيولى ـ على زعمهم ـ فلا يجدي فرضه لتعليل الحوادث، فافهم.

وثالثا أنّ القوّة متقدّمة على الفعل زماناً، فإن اعتبرت الهيولى الاُولى قوةً للصورة الجسميّة أيضاً لزم تقدّمها عليها بالزمان، ولزم أن يكون لها فعليّة قبل حدوث الصورة الجسميّة. فينقل الكلام إليها، مع أنّه يعارض قولهم بملازمة الصورة الجسميّة للهيولى دائماً؛ وإن لم تعتبر قوّةً للصورة الجسميّة لزم كون الهيولى قابلة لما ليس فيها قوّة قبوله، وفي ذلك هدم لأساس البرهان.

ورابعا أنّه على فرض كون الإمكان الاستعداديّ أمراً عرضيّاً محتاجاً إلى محلّ جوهريّ جاز أن يكون محلّه هو الجسم بما له من الفعليّة، لا سيّما على القول بكون العرض من مراتب وجود الجوهر. وأمّا قولهم انّ حيثيّة كون الشيء أمراً بالفعل لا تتّفق مع كونه قابلاً لشيء آخر لمغايرة حيثيّة الوجدان لحيثيّة الفقدان، فممنوع، لأنّ هذا التغاير إنّما يحصل بتحليل من العقل، ضرورة عدم كون الفقدان أمراً عينيّاً. وهذا بدوره يدلّ على كون القبول أمراً انتزاعيّاً، منشأه اتّحاد وجود سابق بوجود لاحق، فالفقدان مفهوم ينتزعه العقل من نقص الوجود السابق، والقبول مفهوم ينتزعه من قياسه إلى الوجود اللاحق.

وخامسا أنّ الإمكان الاستعداديّ على فرض كونه عرضاً حالّاً في الجسم أمر موجود بالفعل، ولا معنى لقيامه بالقوّة المحضة التي لا فعليّة لها.

لا يقال: الهيولى تتحصل بفضل الصورة الجسميّة الحالّة فيها فيصّح نسبة الاستعداد إليها بذلك.

فإنّه يقال: نسبة الاستعداد إلى الهيولى إنّما هو باعتبار كونها قوّة محضة لا باعتبار كونها متحصّلة بالصورة، وإلاّ لما احتيج إلى اثبات جوهر هو عين القوّة.

وسادسا أنّ الوجود مساوق للفعليّة، ولا معنى لفرض موجود في الخارج لا حظّ له من الفعليّة إلاّ أنّه لا فعليّة له، وهل هذا إلاّ كفرض موجود لا وجود له إلاّ أنّه لا وجود له؟!

لا يقال: فقدان الهيولى للفعليّة إنّما هو بحسب ذاتها وبصرف النظر عن حلول الصورة فيها، وليس معنى ذلك وجود أمر فاقد للفعليّة مطلقاً، بل الهيولى توجد في الخارج مع الصورة وتتحصّل بتحصّلها.

فإنّه يقال: لاشكّ أنّه ليس للجسم أزيد من فعليّة واحدة، فمعنى تحصّل الهيولى بالصورة أنّ الصورة واسطة لعروض الفعليّة والتحصّل للهيولى، فالفعليّة ليست صفة ثابتة لها في الحقيقة، بل هي وصف بحال متعلّقها، نظير ما يقال من أنّ المهيّة موجودة في الخارج بعرض الوجود، فغاية ما يمكن أن يقال بشأنها أنّها اعتبار عقليّ، وقد صرّح صدر المتألّهين في موضع من الأسفار بأنّها أمر عقليٌ،(1) وفي موضع آخر بأنّ المادّة أمر عدمّيٌ،(2) وقال في المبدء والمعاد: «لا شكّ عندنا في أنّ الهيولى ليست أمراً مبائناً في الوجود لعلّته القريبة من الصورة وغيرها بحسب نفس الأمر، إذ لا وجود لها استقلاليّاً، بل الوجود إنّما يكون بالذات للصورة، والهيولى منها بمنزلة الظل


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌74.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌146.

من ذي الظلّ، والظلّ أمر عدمّيٌ في الخارج، إلاّ أنّ للعقل أن يتصوّرها شيئاً آخر غير الصورة يكون مهيّتها في نفسها قوّةَ شيء واستعدادَ أمرٍ حادث كما يتصوّر للظلّ معنى آخَرُ غيرُ الضوء مهيّته عدم النور ونقصانُه».(1)

لا يقال: يمكن أن تكون الصورة واسطة لثبوت الفعليّة للهيولى لا لعروضها، وعليه يكون اتّصافها بالفعليّة حقيقيّاً.

فإنّه يقال: حيثيّة الهيولى هي كونها قوّة محضة، وهذه الحيثيّة ذاتيّة لها لا تفترق عنها، فلا معنى لاتّصافها بالفعليّة حقيقةً بواسطة في الثبوت، وإلاّ لكان لشيء واحد فعليّتان اثنتان.

لا يقال: كون القوّة ذاتيّاً للهيولى نظير كون الإمكان ذاتيّاً للمهيّة، فكما أنّ صيرورة المهيّة واجبة بالغير لا تنافي إمكانها الذاتيّ كذلك صيرورة الهيولى أمراً بالفعل لا تنافي كونها عين القوّة المحضة بالذات.

فإنّه يقال: إمكان المهيّة أمر عقلىٌّ ينتزع من مقام ذات المهيّة التي يعتبرها العقل للموجودات الممكنة، وأمّا القوّة المزعومة للهيولى فهو أمر جوهريّ عينيّ على الفرض، فلا معنى لاجتماعها مع الفعليّة، وليس ذلك إلاّ اجتماعاً للمتقابلين.

لا يقال: الجهة مختلفة، فاتّصاف الهيولى بالفعليّة هو بالنظر إلى وجودها في نفسها، واتّصافها بالقوّة يكون بقياسها بالصور التي يستحلّ فيها، ولا مانع من اتّصاف الشيء بمتقابلين من جهتين مختلفتين.

فإنّه يقال: هذا أمارة كون القوّة أمراً عقليّاً لا عينيّاً، وإلاّ لزم تركّب الهيولى من حيثيّتين خارجيّتين، ثمّ ينقل الكلام إلى حيثيّة قوّتها، وهلّم جرّاً. وإذا جاز كون شيء واحد في ذاته أمراً بالفعل، وبالقياس إلى شيء آخرَ أمراً بالقوّة فليكن ذلك هو الجسم.


1. راجع: المبدء والمعاد، ص‌‌265.

ثمّ إنّ برهان الوصف والفصل قريب المأخذ من هذا البرهان، وبالتأمّل في ما أوردنا عليه تعرف ما في ذلك البرهان أيضاً، فتدبّر جيّداً.

133 ـ قوله «لا يقال: لا ريب...»

هذا الإشكال قريب من رابع الإشكالات التي أوردناها على البرهان وممّا نقله صدر المتألّهين عن بعض شيعة الأقدمين،(1) وحاصله على ما قرّره الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) أنّا نسلّم لزوم استعداد الجسم لحلول الصور والأعراض اللاحقة به، لكن لا نسلّم لزوم قيام هذا الاستعداد بما لا فعليّة له في ذاته، بل يجوز قيامه بالجسم بما له من الفعليّة.

وقد أجاب عنه بما حاصله أنّ الاتّصال الجوهريّ الذي هو الحيثيّة الفعليّة للجسم مغاير للصور النوعيّة التي تحلّ في الجسم ويتّحد بها، والمغاير للشيء بما أنّه مغاير له يأبى عن قبوله والاتّحاد به، فلابدّ أن يكون هناك أمر لا يأبى بذاته عن قبول كلّ واحد منها، وليس ذلك إلاّ ما حيثيّة ذاته حيثيّة القبول والقوّة المحضة، وهي الهيولى الاُولى.

وهذا الجواب مبنيٌّ على انحصار اتّحاد الشيئين في اتّحاد ما بالقوّة بما بالفعل، واللامتحصّل بالمتحصّل، ومرجعه إلى إنكار الفعليّات الطوليّة والصور المتراكبة كما ذهب إليه صدر المتألّهين(2) خلافاً للشيخ في طبيعيّات الشفاء. لكن للمُسْتَشْكِل منعُ ذلك وخاصّةً بالنظر إلى ما سيأتي منه(3) أنّ الصور النوعيّة المختلفة في الحقيقة صورة واحدة سيّالة تشتدّ وجوداً بالحركة الجوهريّة، وينتزع عن حدّ كل مرتبة منها ماهيّةٌ خاصّة، حيث ينتفي ـ وفقاً لهذا النظر ـ موضوع اتحاد الشيئين وقبول أحدهما للآخر، وسيجيء تتمّة الكلام في محلّه. وهذا أيضاً من الموارد التي اختلطت فيها الأبحاث الماهويّة بالوجوديّة، ومن آثار رسوب أصالة المهيّة في الأذهان.


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌111ـ114.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌327ـ338.

3. راجع: الفصل الثامن من المرحلة التاسعة فى المتن.

وكيف كان فللمستشكل أن يقول: التغاير الماهويّ بين الجسم والصور النوعيّة لا يمنع من كون وجوده على نعت خاصّ ضروريّاً لحصول الكمالات النوعيّة اللاحقة، ويعبّر عن ذلك بقبوله لها واتّحاده بها، سواء اعتبرنا الجميع وجوداً وحدانيّاً ذا مراتب وشؤون، أو وجودات متعدّدة متراكبة يحتاج بعضها إلى بعض، حسب ما يقتضيه سنخ وجودها، ولك أن تقول: كون وجود الصورة ناعتيّاً هو المبرّر لاتّحادها مع المنعوت بها.

وأمّا ما أضاف إليه من أنّ الاتّصال الجوهريّ لو كان هو الموضوع للاستعداد لاستلزم كونه حاملاً لقوّة نفسه،(1) وبالتالي مقدّماً على نفسه بالزمان، فهو مبنيٌ على مقدّمتين: إحداهما أنّ الجسم من الحوادث المسبوقة بالإمكان الاستعداديّ، وثانيتهما أنّ موضوعيّة شيء للاستعداد يستلزم موضوعيّته لكلّ ما يحتاج إلى سبق استعداد حتّى نفسه، وكلتا المقدّمتين ممنوعتان:

أمّا الاُولى فلأنّ الجسم سواء قلنا ببساطته أو تركّبه من الهيولى والصورة ليس مسبوقاً بعدم زمانيّ حتّى يحتاج إلى سبق استعداد ومادّة، وإلاّ لزم تقدّم الهيولى على الصورة الجسميّة بالزمان، ولزم أيضاً فرض هيولى اُخرى للجسم سابقة عليه. على أنّ ذلك لا يختصّ بالجسم، فالصورة النوعيّة والأعراض المكتنفة بها اللاحقة للجسم في بدء وجوده أيضاً كذلك، لأنّ الجسم لا يوجد أوّلَ ما يوجد عارياً عن أيّة صورة نوعيّة، كما أنّه لا يوجد من دون أن يتقدّر بمقدار خاصّ ويتكيّف بكيفيّة متعيّنة، وليس لشيء منها تقدّمٌ بالزمان على الباقي. فلو اعتبرنا تقدّم المادّة زماناً على كلّ ما يتّحد بها لزم القول بتقدّم الهيولى على الجميع بالزمان. فلا سبيل إلاّ إلى القول بكون مبدء الجسمانيّات نوعاً تامّاً ومتحصّلاً واجداً لما يلزم وجود الجسم من الصور والأعراض وبكونه أمراً إبداعيّاً غير مسبوق بمادّة ومدّة، وبكونه مادّة اُولى لجميع الحوادث.


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌113.

وأمّا الثانيّة فلأنّ ما يلزم القول بكون الجسم موضوعاً للاستعداد هو كونه حاملاً لقوّة ما سيوجد فيه لا كونه حاملاً لأيّة قوّة مفروضة حتّى قوّة وجوده نفسه، كيف والهيولى الاُولى أيضاً ليست حاملة لقوّة نفسها، وإلاّ لكانت متقدّمة على نفسها بالزمان!

134 ـ قوله «وأمّا ما قيل...»

هذا إشكال آخر على قول المشّائين، وهو أن القوّة والاستعداد معنىً عرضيٌّ، فلا يصحّ فرض قوّة جوهريّة على ما يزعمون بشأن الهيولى الاُولى.(1) وقد أجاب عنه بأنّ البرهان قائم على وجود جزء جوهريّ للجسم هو قوّة جميع الصور اللاحقة به، ولا يُدفع البرهان بمثل هذا الوجه الراجع إلى الفهم العرفيّ من اللفظ.

والأولى في بيان الإشكال أن يقال: القوّة إذا اُخذت بمعنى الاستعداد كانت إضافة أو كيفيّة ذات إضافة على ما هو المسلّم عند المستدلّ، وإذا اُخذت بالمعنى الذي يقابل الفعليّة كانت من المعاني العقليّة (المعقولات الثانية الفلسفيّة) وتحصل من قياس أمر سابق إلى أمر لاحق له علاقة خاصّة به، فلا تكون من المقولات حتّى تعدّ جوهراً أو عرضاً. وعلى أيّ حال فلا وجه للقول بوجود جوهر هو عين القوّة، فتأمّل.

135 ـ قوله «وأمّا حديث بطلان الاستعداد...»

حاصل هذا الإشكال أنّ القوّة والاستعداد يبطل بتحقّق المستعدّ له، ولو كانت الهيولى قوّةً لزم بطلانها عند تحقّق المقويّ عليه. وأجاب عنه تبعاً لصدر المتألّهين(2) بأنّ الذي يبطل عند تحقّق المستعدّ له هو الاستعداد الخاصّ لذلك المستعدّ له،


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌71.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌74ـ76 و 119.

وهو أمر عرضيّ، وأمّا الهيولى فهي القوّة المطلقة لجميع الصور، فلا يوجب حلول صورة خاصّة فيها بطلانها من رأس.

لكن للمستشكل أن يقول: إذا تعيّنت هذه القوّة المبهمة بسبب الإمكان الاستعداديّ لشيء خاصّ فلا محالة تصير الهيولى بتمام ذاتها قوّةً متعيّنة لذلك الشيء لمكان بساطتها، فيلزم بطلانها عند تحقّقه، فتأمّل.

136 ـ قوله «لا يقال: الحجّة منقوضة بالنفس الإنسانيّة...»

هذا الإشكال يرد على مثل صدر المتألّهين(1) ممّن يقول بكون النفس مادّة للصورة العقليّة، ولا يجدي لدفعه تفسير المادّة بغير ما يوجد في الأجسام،(2) لأنّه إمّا أن يَعترف بلزوم استعداد النفس لحصول تلك الصور أو لا؟ وعلى الأوّل يلزمه الاعتراف بوجود مادّة حاملة للإمكان الاستعداديّ فيجري فيه برهان القوّة والفعل بعينه، وعلى الثاني ينهدم أساس ذلك البرهان. لكن يمكنه أن يقول بأنّ المادّة الحاملة لاستعداد النفس هو مادّة البدن المتّحدة بها مادامت متعلّقة بالبدن. وأمّا كون اتّحاد النفس بالصور المعقولة اشتداداً في جوهرها المجرّد فهو عبارة اُخرى عن ثبوت الحركة الجوهريّة فيها، فلا يلائم إنكار كونه من باب الحركة. كما أنّ جعل الحصول على كلّ مرتبة عقليّة شرطاً لنيل ما فوقها لا يخرجها عن مجرى البرهان المذكور، فتأمّل.

137 ـ قوله «الحجّة منقوضة بنفس المادّة».(3)

هذا الإشكال قريب ممّا ذكرناه في الإشكال الأخير، وقد أشبعنا القول فيه، فراجع الرقم (132).


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌70ـ71.

2. راجع: تعلقية الأسفار: ج‌5، ص‌‌70.

3. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌116ـ117.

الفصل السادس

138 ـ قوله «في أنّ المادّة لا تفارق الجسميّة»

هناك مسألتان: إحداهما عدم انفكاك الهيولى عن صورة مّا، وثانيتهما عدم انفكاكها عن الصورة الجسميّة خاصّة.(1) والمسألة الثانية إنّما تطرح بعد إثبات الصورة الجسميّة وأنّ الجسم ماهيّة تامّة وليس معنى جنسيّاً فقط.(2) وكلتا المسألتين متفرّعتان على ثبوت الهيولى الاُولى كقوّة جوهريّة محضة. والمسألة الاُولى واضحة بالنظر إلى كون الوجود مساوقاً للفعليّة، والمفروض أنّ الهيولى فاقدة للفعليّة في ذاتها، فلابدّ من اتّحادها بالصورة التي حيثيّتها حيثيّة الفعليّة حتّى تتحصّل موجوداً بالفعل، لكن هذا البيان لا يثبت لزوم اتّحادها بالصورة الجسميّة خاصّة، فتدبّر.

139 ـ قوله «ثمّ إنّ المادّة...»

إن اُريد بالصورة المقوّمة للمادّة ما هو أعمُّ من الصورة الجسميّة لم يصحّ الاستدلال بتبدّل الصور لإثبات عدم كون الصورة تامّة الفاعليّة، فإنّ المفروض عدم تبدّل الصورة الجسميّة؛ وإن اُريد بها الصور المنوّعة كان الأولى تأخير هذه المسألة عن إثبات تلك الصور. ثمّ لسائل أن يسأل: لِم لا يجوز أن تكون الصورة الجسميّة فاعلاً تامّاً للهيولى ولا تكون لتلك الصور جهة فاعليّة لها أصلاً؟(3)

أضف إلى ذلك أنّ للصور النوعيّة وجوداً واحداً سيّالاً عند المصنّف(دام‌ظله‌العالی) كما سيأتي في الفصل الثامن من المرحلة التاسعة، فلا تكثّر لها بالفعل بحسب


1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌65؛ وراجع: النجاة: ص‌‌203ـ205؛ والنمط الاول من شرح الإشارات؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌129ـ156.

2. راجع: الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌130.

3. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ والتحصيل، ص‌‌341؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌145.

الوجود الخارجيّ حتّى يتبدّل بعضها إلى بعض، اللّهمّ إلاّ أن يفسّر ذلك بتبدّل الحدود، فتأمّل.

140 ـ قوله «فإنّه يقال...»

الأولى أن يقال في الجواب: إنّ ضرورة كون العلّة أقوى وجوداً من المعلول إنّما هي في العلّة المفيضة للوجود، وهي ههنا المفارق دون الصورة.(1) على أنّ كون الهيولى واحدة بالعدد ممنوع ـ وقد اعترف صدر المتألّهين بكون وحدتها جنسيّة(2) ـ وخاصّة بالنظر إلى ما سيأتي في الفصل التالي من أنّ الجسميّة تبطل ببطلان الصورة النوعيّة وتحدث جسميّة اُخرى بحدوث الصورة الجديدة، فَلْيَلْتَزِمْ بمثله في الهيولى، وفي الالتزام به هدم للأساس، ولا يجدي الفرق بين المادّة الاُولى والثانية بأنّها تنحفظ شخصيّتها بالوحدة النوعيّة للصورة الجسميّة بخلاف الثانية، فإنّ الوحدة النوعيّة وحدة ماهويّة موطنها الذهن، والتحصّل الخارجيّ رهن للوجود، فَتَفَطَّنْ.

141 ـ قوله «وإن كانت المتقدّمة عليها زماناً»

هذا في غير الصورة الجسميّة.

142 ـ قوله «وأيضاً الجسم... طبيعة نوعيّة تامّة»

هذه المقدّمة قابلة للمنع، فإنّها ليست بيّنة ولا مبيّنة. وقد استدلّ لها في الأسفار بقوله «إذ لو لم يكن كذلك لكانت بعد التجريد عن الصور المختلفة والهيئات المتفاوتة إمّا حقائق مختلفة متخالفة بذواتها البسيطة، أو متفاوتة بفصول ذاتيّة غير


1. راجع: الفصل المذكور من إلهيات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌79؛ والتحصيل: ص‌‌343؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌152.

2. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌74ـ75 و 123 و 152ـ156 و 187.

تلك الصور والهيئات، أو حقيقة واحدة غير الحقيقة الواحدة المسمّاة بالجوهر القابل للأبعاد، أو هي من طبيعية اُخرى يكون بمنزلة الفصل لها، والكلّ فاسد عند العقل الصحيح، فبقي كون الجميع مشتركة في طبيعة واحدة نوعيّة هي الجسميّة، أي الجوهر المصحّح لفرض الأبعاد».(1)

لكن هذه الحجّة قابلة للمناقشة، لجواز كون الجسم معنى جنسيّاً غير متحصّل إلاّ بالفصول،(2) ومع فرض حذف جميع الصور المنوّعة لا يبقىٰ شيء متحصّل في الخارج حتّى يتردّد بين كونه حقيقة واحدة أو حقائق مختلفة. ودعوى تجويز العقل وجودَ الجسم بصرافته في الخارج مثل دعوى تجويز اللون بصرافته من غير تعيّن، وسيأتي في الفصل اللاحق أنّا لا نقدر على تصوّر جسم من غير أن يكون عنصراً أو شجراً أو شيئاً من سائر الأنواع.

143 ـ قوله «في كلّ جسم» متعلّق بقوله «ثبت» لا بـ «الحلول» فلا تغفل.

144 ـ قوله «فهو بطبيعته وفي ذاته إمّا أن يكون غنيّاً...»

يمكن المناقشة في هذا الاستدلال(3) بأنّ الطبيعة النوعيّة بما أنّها مهيّة لا تقتضي شيئاً من الغنى والافتقار، لأنّهما من أوصاف الوجود، وكما أن المهيّة لا تقتضي الوجود كذلك لا تقتضي شيئاً من أوصافه. ولعلّه لأجل ذلك أضاف قوله «وفي ذاته» حتّى يكون في قوّة أن يقال «الجسم من حيث مهيّته ومن حيث وجوده...» فتأمّل.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌130ـ131.

2. راجع: تعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌171.

3. راجع: آخر الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌64؛ والتحصيل: ص‌‌319 و 347؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌129ـ133 و 137؛ حيث قال «ثمّ إنك لمّا علمت من طريقتنا ـ الخ ـ».

145 ـ قوله «وهو محال بالضرورة»

إن اُريد استحالة تبدّل كلّ من المستقلّ والناعت إلى الآخر فهو ممنوع لجواز كون الناعتيّة لازمة للمرتبة الضعيفة، فلا مانع من صيرورة الناعت مستقلّاً باشتداد وجوده وبلوغه إلى مرتبة يلزمها الاستغناء عن المحلّ، كما أنّ النفس تتجرَّد بالحركة الجوهريّة وتصير مستغنيّة عن البدن حتّى في فعلها عند اتّحادها بالعقل الفعّال ـ على ما قالوا ـ وإن اُريد خصوص تبدّل المستقلّ إلى الناعت فهو على الأقلّ غير ضروريّ ويحتاج إلى برهان.

146 ـ قوله «في تجرّد الصورة الجسميّة»

أي في تعرّيها عن الهيولى ومفارقتها لها.

147 ـ قوله «مقيّدة بالحركة»

لكنّه ليس تقييداً في الحقيقة، لأنّها عند بلوغ الغاية ـ على الفرض ـ لا تبقى جسمانيّةً ومحدودةً بحدودها الماهويّة، فلا يصدق عليها الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة الذي هو جنس لجميع الصور الطبيعيّة أو لازم لها على الأقلّ، فتخرج عن القاعدة المبحوث عنها تخصّصاً.

148 ـ قوله «ويتأيّد ذلك...»

قال في الأسفار: «إنّ مادّة الشيء ليست داخلة في قوام مهيّة ذلك الشيء وإلاّ لكانت بيّنةَ الثبوت له ولم يفتقر في إثباتها إلى برهان، لكنّ الجسم بما هو جسم قد حصل لنـا معناه ـ وهو الجوهر الذي يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة على الوجه المذكور ـ وشككنا في أنّه هل له مادّة تحمل معناه أم لا، إلى أن جاء البرهان الحاكم

بوجود جوهر آخَرَ مادّي»(1) ثمّ نقل كلام الشيخ في آخر الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء، لكن في دلالة كلام الشيخ على عدم دخول المادّة في قوام مهيّة الجسم نظر يظهر بالتأمّل فيه. وكيف كان فالجمع بين هذه الدعوى وما أصرّ عليه(2) من أخذ الجنس من الهيولى والفصل من الصورة، مشكل جدّاً. مضافاً إلى أنّ عدم دخول المادّة في مهيّة الجسم لا يستلزم عدم دخول الجسم في مهيّة الحيوان والإنسان.

وأمّا الاستدلال لعدم دخول المادّة في قوام مهيّة الجسم بأنـّه لو كان كذلك لكانت بيّنة الثبوت له، فيلاحظ عليه بأنّ معرفة الجسم بأنـّه جوهر قابل للأبعاد الثلاثة ليست بمعرفة تامّة لحقيقة الجسم على فرض كونه مركّباً من جوهرين، والذاتيّ إنّما يكون بيّن الثبوت إذا عُرفت الذات معرفةً تامّة، كما أنّ معرفة النفس بأنّها جوهر مدبّر للبدن لا تستلزم العلم بتجرّدها، مع أنّه ذاتيّ لها.(3)

الفصل السابع

149 ـ قوله «في اثبات الصور(4) النوعيّة»

الكلام ههنا في إثبات أنّ الجسم يتنوّع بحلول جواهرَ اُخرى غيرِ محسوسة بذاتها فيه، وهو مذهب المشّائين وأتباعهم من فلاسفة المسلمين، وخالفهم شيخ الإشراق تبعاً للأقدمين ـ على ما نسب إليهم ـ. قال في المطارحات: «أمّا الصورة فالقدماء


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌136 و ‌‌128؛ وج‌2: ص‌‌32ـ35.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌37ـ38.

3. راجع: القبسات: ص‌‌46.

4. لتحقيق معاني الفصل راجع: الفصل الرابع من المقالة السادسة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌249؛ والتحصيل: ص‌‌533.

يرون أنّ كلّ ما ينطبع في شيء هو عرض، ويتأبَّون عن تسمية المنطبع في المحلّ جوهراً»(1) وقال في حكمة الإشراق: «والحقُّ مع الأقدمين في هذه المسألة».(2)

وللقائلين بالصور النوعيّة الجوهريّة حجج منقولة في الشفاء(3) والأسفار،(4) وتصدّى شيخ الإشراق لمناقشتها،(5) وصاحب الأسفار للإجابة عليها،(6) لكنّه أبدى مذهباً آخر، وهو أن الصورة النوعيّة ليست بجوهر ولا عرض بل هي الوجود الخاصّ للشيء،(7) وقد مرّت الإشارة إلى مذهبه في حقيقة الفصل وأنّه نحو وجود الشيء تحت الرقم (103).

150 ـ قوله «إنّا نجد في الأجسام...»

هذه ثانية الحجج المنقولة في الأسفار،(8) وحاصلها أنّ لكلّ نوع من الأنواع الجسمانيّة حيثيّةً ذاتيّة غيرَ حيثيّة الجسميّة يستحيل تعقّله كنوع تامّ بدون تعقّل تلك الحيثيّة، فهي مقوّمة له، ومقوّم الجوهر أمر جوهريّ، فهي أمر جوهريّ.

151 ـ قوله «فكثيراً مّا يوجد...»

هذا الإشكال أورده صاحب المطارحات على حجّة اُخرى قريبة المأخذ من هذه الحجّة، وهي ثالثة الحجج المنقولة في الأسفار.(9)


1. راجع: المطارحات: ص‌‌284.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌88.

3. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثانية؛ والفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌69ـ74 و 170ـ171؛ والتحصيل: ص336ـ338.

4. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌157ـ182.

5. راجع: المقاومات: ص‌‌149ـ152؛ والمطارحات: ص‌‌284ـ293؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌82ـ88.

6. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌167ـ180.

7. راجع: نفس المصدر: ص‌‌181؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌3.

8. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌166.

9. راجع: نفس المصدر: ص‌‌171؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌288.

152 ـ قوله «فهي مقوّمات للأنواع عارضة على الجنس»

الأولى في الجواب أن يقال: كون الفصل مأخوذاً من الصورة بأخذ مفهومها لا بشرط لا يوجب سراية جميع أحكام الفصل إلى الصورة وبالعكس، فلا منافاة بين عدم اندراج الفصل تحت الجوهر واندراج الصورة تحته.(1) قال صدر المتألّهين في نظير هذا المقام: «زوال الفصل وإن استلزم زوال الجنس من حيث هو جنس لكنّه لا يستلزم زواله من حيث هو مادّة».(2)

153 ـ قوله «حجّة اُخرى...»

هذه اُولى الحجج المنقولة في الأسفار،(3) وقد ناقشها في المطارحات.(4) ونقول من رأس: لا ريب أنّ الانواع الجسمانيّة تنتزع عنها مفاهيمُ عامّةٌ كالجوهر والجسم، ومفاهيمُ اُخرى يختصّ كلّ واحد منها بنوع خاصّ. فإن كان شيء منها مركّباً في الواقع من فعليّات متراكبة كان له لا محالة صور متعدّدة بعضها فوق بعض، وربما يزول بعضها فيبقى بصورة واحدة أو أكثر، كالنبات الذي يعود تراباً.

لكنّ المركّب لابدّ من أن ينتهي إلى البسيط لاستحالة تركّب موجود محدود من اُمور غير متناهية بالفعل، فالنوع الجسمانيّ البسيط تنتزع عنه ثلاثة مفاهيم مثلاً: الجوهر، والجسم، والمفهوم الخاصّ بذلك النوع. فعلى القول ببساطته الحقيقيّة ونفي الهيولى الاُولى ـ كما هو المختار ـ لا مجال للقول بانتزاع المفاهيم العامّة من الأجزاء الخارجيّة (الهيولى والصورة) فتعود تلك المفاهيم اُموراً عقليّة من قبيل المعقولات الثانية الفلسفيّة، وتحمل على الأنواع الجسمانيّة بالحمل الشائع. اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّها


1. راجع: هذه التعليقة: الرقم 104.

2. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌120.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌157ـ166.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌287ـ288.

من الأجزاء التحليليّة للماهيّة كأجناس الأعراض وفصولها، فتكون من قبيل المعقولات الاُولى وتحمل على الماهيّات النوعيّة بالحمل الأوّليّ، فليتأمّل.

وأمّا على القول بكون البساطة نسبيّة وكون كلّ موجود جسمانيّ مركّباً من جزأين خارجيّين (الهيولى والصورة) لا أقلَّ منهما، فإمّا أن يؤخذ الجوهر والجسم كلاهما معنيين جنسيّين بعضهما في طول بعض، أو يؤخذ الجسم فقط جنساً ويؤخذ الجوهر معنىً عقليّاً لازماً له؛ وعلى كلا الوجهين إمّا أن يلتزم بكون الجنس والفصل مأخوذين من المادّة والصورة وإمّا أن يُجوَّز كونهما من المعاني التحليليّة كأجناس الأعراض وفصولها. وكيفما فرض فلا تكفي الصورة الجسميّة للتحصّل التامّ، بل يحتاج كلّ نوع جسمانيّ إلى انضمام جزء آخرَ به تتحصّل ماهيّته تحصّلاً تامّاً، وهو الصورة المنوّعة. ولا يجوز جعل الجوهر جنساً لها بناءً على كون الجنس مأخوذاً من الهيولى، وإلاّ لزم تركّبها من جزأين آخرين وهكذا فيتسلسل، فلابدّ من القول بكونها أمراً بسيطاً غير مندرج تحت مقولة الجوهر بل إنّما يحمل عليها حملاً شائعاً. أمّا إذا جُوّز كون الجنس والفصل جزأين تحليليّين غير مأخوذين من المادّة والصورة أمكن القول بكون الجوهر جنساً للصور النوعيّة محمولاً عليها بالحمل الأوّليّ. نعم يكون الفصل على أيّ حال معنى بسيطاً غير مندرج تحت الجوهر اندراج النوع تحت جنسه على ما مرّ بيانه. فتأمّل جيّداً.

154 ـ قوله «خاتمة للفصل»

لقد تصدّى في الشفاء(1) لتبيين العلاقة بين المادّة والصورة وأنّ الصورة علّة لوجود المادّة، إلاّ أنّها ليست مفيضة لوجودها لقصور الجسمانيّات عن إفاضة الوجود،(2) ولهذا


1. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثانية من إلهيّات الشفاء وراجع: التحصيل: ص‌‌340ـ343؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌145ـ151.

2. راجع: المطارحات: ص‌‌445449.

يعبّرون عنها بشريكة العلّة للمادّة. وأمّا الصور النوعيّة فقالوا إنّها مقوّمة للمادّة بشركة الصورة الجسميّة،(1) بل قالوا إنّها مقوّمة للصورة الجسميّة أوّلاً.(2) وقوله «علّة فاعليّة» احتراز عن العلّيّة المادّية التي تكون للمادّة بالنسبة إلى الجسم وعلّية التشخّص التي لها بالنسبة إلى الصورة.(3) وقوله «متقدّمة عليه» يعني التقدّم بالعلّية لا بالزمان.

155 ـ قوله «وثانياً...»

قال في الأسفار: «فصل في أنّ تقويم الصورة الطبيعيّة للجسميّة ليس على سبيل البدل»(4) وفرّع عليه زوال الجسم بزوال صورة طبيعيّة وحدوث جسم آخر بحدوث صورة طبيعيّة اُخرى، لكنّه أنكر ذلك في بعض موارد اُخرى ونسبه إلى مكابرة العقل والحسّ جميعاً.(5) وهذا البحث مبنيٌ على تعدّد الصور وتعاقبها، وأمّا بناء على كون جميع الصـور مراتبَ وجود واحد ـ على ما سيجيء ذكره في مبحث الحـركة الجوهـريّة ـ فيفقد البحث موضوعهـا، إلاّ أن يـؤوّل تعاقب الصـور بتعاقب المراتب الموجودة بالقوّة، فكلّ مرتبة تشتمل على صورة طبيعيّة تقوّم شخص الصورة الجسميّة الموجودة في ضمنها، وبتبدّلها إلى مرتبة اُخرى توجد صورة طبيعيّة اُخرى مشتملة على شخص آخر من الصورة الجسميّة، كلُّ ذلك باعتبار الوجود بالقوّة.

ثمّ إنّ زوال المقوّم إذا كان موجباً لزوال المتقّوم لزم القول بزوال الهيولى الاُولى بزوال الصورة الجسميّة المقوّمة لها، ولا يبقي حينئذ مبرّر لوجودها. وقد فرّق صدر المتألّهين بينهما بأنّ الهيولى تنحفظ شخصيّتها بانحفاظ نوعيّة الصورة الجسميّة


1. راجع: التحصيل: ص‌‌336.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌337ـ338؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌185.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌154ـ156؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌81.

4. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌182ـ183؛ والتحصيل: ص‌‌337.

5. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌120؛ و ج2: ص‌‌24؛ وراجع: التلويحات: ص‌‌19؛ وتعليقة صدرالمتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌179؛ والمطارحات: ص‌‌367.

بخلاف الجسم،(1) لكن بقاء شخص الهيولى حقيقةً مع تبدّل أشخاص مقوّمها مشكل جدّاً والفرق بينها وبين الجسم أشدُّ إشكالاً.

الفصل الثامن

156 ـ قوله «لاختصاص قبول القسمة بالكم المتّصل»(2)

يمكن أن يدفع الإشكال بأنّ المراد بالقبول أعمُّ من الاتّصاف بالفعل وبالقوّة. مضافاً إلى أن العدد بما أنّه موجود أمر وحدانيٌ قابل للقسمة إلى الآحاد أو إلى أعداد اُخرى، والكثرة بالفعل صفة للمعدود. واعلم أنّهم لا يعتبرون «الواحد» عدداً لعدم قبوله القسمة بما أنّه واحد، ويسمّونه مبدء العدد،(3) لكنّهم يعتبرونه عرضاً،(4) خلافاً لصدر المتألّهين وأتباعه حيث يقولون بأنـّه من أوصاف الوجود. وقد ذكروا وجوهاً للفرق بين المقدار والجسميّة.(5)

الفصل التاسع

157 ـ قوله «والمتّصل...»

قال في الأسفار: «وله تعريفان: أحدهما كون الكم بحيث يمكن أن يفرض فيه


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌182؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌74.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌8ـ10.

3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌98؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌237.

4. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: تعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌94ـ96.

5. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌171ـ175؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌94ـ96.

أجزاء تتلاقى على الحدود المشتركة. والحدّ المشترك ما يكون بدايةً لجزء ونهايةً لآخَرَ. وثانيهما كونه قابلاً للانقسامات الغير المتناهية بالقوّة. والمنفصل يقابله في كلا المعنيين».(1) وقال فى التحصيل: «المتّصل هو الذي يمكن أن يفرض بين أجزائه حدّ مشترك، وهذا الحدّ أمّا في الجسم فهو السطح، وفي السطح الخطّ، وفي الخطّ النقطة».(2) وهكذا مثّل له في شرح المنظومة.(3) فالحدّ المشترك على رأي هؤلاء أمر مغاير للمحدود من حيث النوع، ويقع طرفاً للكم لا جزءاً منه كما أنَّ السطح حدّ مشترك يفرض بين أجزاء الجسم وكذلك الخط للسطح، والنقطة للخطّ، لكنّ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) مثّل للحدّ المشترك بالجزء المتوسّط بين جزأين من الخطّ، والأوّل أولى بل هو المتعيّن، فإنّ الظاهر من قولهم «تتلاقى على حدود مشتركة» أنّ الأجزاء غير الحدود.

158 ـ قوله «فإنّ الخمسة مثلاً...»

حاصل البيان أنّه إذا قسّم الخمسة إلى اثنين وثلاثة مثلاً فإن جعل واحد من آحادها حدّاً مشتركاً بين الجزئين صارت الآحاد الباقية أربعة، وإن جعل بينهما حدّ من غير آحاده صار المجموع ستّة. لكنّ الأمر واضح في نفسه ولا يزيده هذا البيان وضوحاً، ولقائل أن يقول إنّه من قبيل «باؤك تجرّ وبائي لا تجرّ» لأنّه إن كان البناء على اعتبار الحدّ واحداً من جملة الآحاد فليعتبر في الشقّ الأوّل أيضاً فتكون الآحاد خمسة لا أربعة، وإن كان البناء على عدم اعتباره من جملة الآحاد فليفعل في الشقّ الثاني أيضاً فتكون الآحاد خمسة لا ستّة.(4)


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌13ـ14؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌178ـ179.

2. راجع: التحصيل: ص‌‌354.

3. راجع: شرح المنظومة، ص‌‌133؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌181.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌236.

159 ـ قوله «فإنّ كلّ جزء منه بالفعل قوّة للجزء التالي»

هذا البيان ـ بصرف النظر عمّا وقع فيه من التسامح حيث اعتبر جزء من الزمان موجوداً بالفعل مع عدم وجود جزء بالفعل في الكم المتّصل ـ يدلّ على أنّ القوّة أمر إضافيٌ، ويصحّ اعتبار موجود بالفعل قوّةً بالإضافة إلى موجودٍ لاحقٍ به من غير حاجة إلى مادّة تقوم قوّته بها وإلاّ لزم التركّب في الأعراض، وبذلك ينهدم أساس ما احتجّوا به على إثبات الهيولى الاُولى، فتذكّر.

160 ـ قوله «والكم المنفصل وهو العدد موجود في الخارج بالضرورة»(1)

الذي يصحّ دعوى الضرورة فيه هو اتّصاف الأشياء الخارجيّة بالأعداد كاتّصافها بالآحاد، وهذا لا يستلزم كون العروض أيضاً في الخارج، بحيث يصحّ عدّ العدد من المهيّات الحقيقيّة، فإنّ الأشياء الخارجيّة تتّصف بالمعقولات الثانية الفلسفيّة أيضاً كالإمكان والوجوب والوحدة وغيرها، والأشبه كون العدد من هذا القبيل، ويدلّ عليه صحّة حمل أعداد مختلفة على أشياءَ معيّنةٍ حسبَ اختلاف الاعتبارات، وصحّة حمل عدد على عدد وهكذا مرّات عديدة من غير حصول شيء بإزائها.(2)

161 ـ قوله «فالجسم التعليميّ والسطح موجودان في الخارج»(3)

الجسم التعليميّ أو الحجم ينتزع من حدود الجسم الطبيعيّ، والسطح ينتزع من حدّ الحجم، كما أنّ الخطّ هو طرف السطح، والنقطة طرف الخطّ. والحدود والأطراف


1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌367؛ والمطارحات: ص‌‌245ـ246.

2. راجع: المطارحات: ص‌‌358؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌6768.

3. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌375.

اُمور عدميّة لا يصحّ عدّها من المهيّات الحقيقيّة.(1) وقد فرّق الشيخ بين اعتبار كونها نهايات واعتبار كونها مقادير،(2) لكنّه غير مجدٍ فى إثبات كونها اُموراً عينيّة. وقد صرّح صدر المتألّهين في موضع بكونها من العوارض التحليليّة،(3) وإن نسب اُستاذه هذا القول إلى بعض المقلّدين.(4)

162 ـ قوله «ثمّ إنّ كلّ مرتبة...»

كذا قال في الشفاء،(5) واحتمل في الأسفار عدم التخالف النوعيّ بينها.(6)

163 ـ قوله «بل مركّبة من أنواع شتّى»

فيه نظر واضح، فإنّ الشكل غير المنتظم أيضاً شكل واحد لا تركيب فيه بالفعل، وفرض قسمته إلى أشكال منتظمة لسهولة المحاسبة لا يستلزم تركّبه منها حقيقة، وإلاّ لزم القول بتركّب المربّع من مثلّثين وهكذا في كثير من الأشكال المنتظمة.

الفصل العاشر

164 ـ قوله «إنّ العدد لا تضادَّ فيه»(7)

من أحكام الكم أنّه لا تضادّ فيه، وإنّما عبّروا بالأحكام دون الخواصّ (كما يعبّر


1. راجع: المطارحات: ص‌‌262ـ263.

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌102؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌372؛ والمطارحات: ص‌‌247؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌215.

3. راجع: تعليقة صدر المتألهين على إلهيّات الشفاء، ص‌‌104.

4. راجع: القبسات: ص‌‌285ـ292.

5. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء.

6. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌99ـ100.

7. راجع: المباحث المشرقية، ج‌1، ص‌‌188ـ190؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌240.

بالخواص عن المساواة والمفاوتة، والانقسام، ووجود العادّ) لأنّ بعضها لا يختصّ بالكم بل يشمل بعضاً آخر من المقولات،(1) وبعضها الآخر لا يشمل جميع أقسام الكم.

165 ـ قوله «ففيه أنّ المرتبة...»

قال في الشفاء: «لهذا ما قال الفيلسوف المقدّم: لا تحسبنّ أنّ ستّةً ثلاثةٌ وثلاثة، بل هو ستّة مرّةً واحدة»(2) وقال صدر المتألّهين: «فالحقّ أنّ مهيّة العدد أمر بسيط لا اختلافَ أجزاءٍ فيها»(3) ويتأيّد بذلك ما أشرنا إليه سابقا(4) من أنّ العدد ليس مركّباً بالفعل حتّى من الآحاد، بل ينقسم إليها كما ينقسم إلى أعداد اُخرى أحياناً.

166 ـ قوله «الأبعاد متناهية»(5)

قال في الأسفار: «وعليه براهينُ كثيرةٌ نذكر منها ثلاثةً» ثمّ ذكر هذا البرهان المسمَّى ببرهان المسامتة وقال «وهو المعوّل عليه».(6)

قال الشيخ في عيون الحكمة (ص 34): «لو كان بُعد غير متناهٍ خلأً أو مَلأً لكان لا يمكن أن تكون حركة مستديرة، فإنّه إذا أخرجنا عن مركزها خطّاً إلى المحيط بحيث لو اُخرج في جهةٍ قاطَعَ خطّاً مفروضاً في البعد غير المتناهي على نقطة، فإنّه إذا دار زالت تلك النقطة عن محاذاة المقاطعة إلى المباينة إذا صارت في جهة


1. راجع: التحصيل: ص‌‌361ـ364؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌18ـ30.

2. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌185.

4. راجع: هذه التعليقة: الرقم 156.

5. راجع: النمط الأوّل من الاشارات؛ وراجع: الفصلين السابع والثامن من المقالة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء: ص‌‌98ـ103؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌192ـ203.

6. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌21ـ22؛ وشرح المنظومة: ص‌‌225؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌196؛ ونقد المحصل: ص‌‌217؛ وراجع: الفصل الثامن من المقالة الثانية من الفن الاول من طبيعيات الشفاء: ص‌‌5758؛ والنجاة: ص‌‌123؛ والتحصيل: ص‌‌385ـ387.

اُخرى، فيصير بعد أن كان المركز مسامتاً بها شيئاً من ذلك الخطّ غيرَ مسامت لشيء منه ثمّ يعود مسامتاً، فلابدّ من أوّل نقطة تسامتٍ في ذلك الخطّ وآخر نقطة تسامتٍ عليها. لكن أيّ نقطة فرضناها على خطّ غير متناه فإنّا نجد خارجاً عنها نقطة اُخرى يمكن أن نصلها بالمركز، فيكون القطع الحاصل إذا بلغه النقطة صار مسامتاً قبل أوّل ما سامَت ـ أو بعد آخر ما سامَت ـ هذا خلف. لكنّ الحركات المستديرة ظاهرة الوجود فالأبعاد الغير المتناهية ممتنعة الوجود».

توضيح البرهان أنّه لو فرض خطّ غير متناه أمكن أن يفرض بموازاته خطّ يكون محوراً لكرة، وأمكن أن ‌تتحرّك الكرة بحيث يصير الخطّ المحوري مائلاً إلى الخطّ غير المتناهي فيخرج عن الموازاة إلى المسامتة، ولازمه أن يتقاطعا لا محالة بحكم مصادرة اقليدس، ويتعيّن محلّ التقاطع حسب مقدار حركة الكرة وارتسام الزوايا التي تحصل حول مركزها حتّى ينتهي إلى نقطة المحاذاة لمركز الكرة حيث تصير الزاوية قائمة. فهناك زوايا حادّة بين الخطّ الموازي والخطّ المقاطع، تختلف درجاتها من فوق الصفر إلى مادون التسعين درجة. فعند حصول أوّل جزء من الحركة ترتسم زاوية حادّة قريبة من الصفر وترتسم نقطة على الخطّ غير المتناهي تكون طرفاً للخط المساس، وهي أول نقطة للمسامتة فلو كان الخط الأول متناهياً أمكن جعل النقطة الاُولى طرفاً له، لكن لمّا فرضناه غير متناه توجد عليها نقاط اُخرى قبل النقطة الّتي فرضناها نقطة اُولى للمسامتة وأبعد منها عن نقطة المحاذاة، ويمكن وصل تلك النقاط بمركز الكرة برسم خطوط مستقيمة اُخرى قبل أن يصل إلى الخطّ الموازي وتنطبق عليه. فمقتضى وجود المبدء للحركة أن تكون على الخطّ نقطة متعيّنة للمسامتة، ومقتضى كون الخطّ غير متناه أن تفرض قبلها نقاط اُخرى للمسامتة إلى غير النهاية. ومنشأ هذا التناقض هو فرض عدم التناهي، فاستحالة التناقض يكشف عن بطلان الفرض بالبرهان الخلفيّ.

واعلم انه قد يقرّر البرهان بوجه آخر، وهو أن يفرض الخطّ المحوريّ مقاطعاً للخطّ غير المتناهي ويفرض حركة الكرة إلى حيث يصير موازياً له، ويسمّى ببرهان الموازاة.(1) والفرق بين التقريرين أنّ التركيز في التقرير الأول على اُولى نقاط المسامتة، وفي التقرير الثاني على آخرتها.

ثمّ إنّ صدر المتألّهين نقل قدحاً في هذا البرهان عن بعض أكابر المتأخّرين وتصدّى للإجابة عليه،(2) لكن الظاهر ورود الإشكال، وتقريره بوجه أوضح أنّ الحركة متكمّمة بالكمية الاتّصاليّة، وكلّ مقدار وامتداد سواء كان قارّاً أو غير قارّ يقبل الانقسام إلى غير النهاية، فكلّما فرضت الحركة قصيرة أمكن فرض أقصر منها، فالزاوية التي ترتسم حول مركز الكرة بسبب حركة محورها كلّما كانت شديدة الحدّة أمكن فرض أحدَّ منها، وهذا هو السرّ في إمكان فرض نقطة قبل النقطة المفروضة كنقطة اُولى للمسامتة. هذا مضافاً إلى ما يرد على جميع البراهين الرياضيّة في هذا المضمار. وسيأتي الإشارة إليه تحت الرقم (168).

وأمّا البرهانان الآخران فهما البرهان السلّميّ وبرهان التطبيق(3) ويستفاد من هذه البراهين لإبطال التسلسل أيضاً، وقد ذكرها مع عدّة اُخرى من البراهين في مباحث العلّة والمعلول من الأسفار،(4) وللمناقشة في جلّها مجال واسع.

167 ـ قوله «بمصادرة اقليدس»

وهي أنّ الخطّين إذا كانا متوازيين فلا يتقاطعان وإن امتدّا إلى غير النهاية، وإذا خرجا عن التوازي تقاطعا لا محالة.


1. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌225.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌22ـ23.

3. راجع: نفس المصدر.

4. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌144ـ170؛ وراجع: القبسات: ص‌‌227ـ237.

168 ـ قوله «وأمّا ذهاب السلسلة بالفعل إلى غير النهاية...»

يشكل الجمع بين القول باستحالة الغير المتناهي بالفعل والقول بجواز وقوع حوادثَ غيرِ متناهية، خاصّة بالنظر إلى أنّ المتفرّقات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الدهر.(1) ويمكن دفع الإشكال بأنّ العدد أمر يقبل التنصيف وسائر النسب الكسريّة، ولهذا فلا يصدق إلا على الاُمور المحدودة، فالاُمور التي لا تتناهى لا تكون معروضة للعدد بما أنّها غير متناهية. وإذا صحّ هذا الجواب أمكن إجراؤه في المقادير الهندسيّة أيضاً، فيقال: المقادير الهندسيّة بما أنّها تلك المقادير لا تعرض إلاّ للأجسام المتناهية، فلا تدلّ البراهين الهندسيّة كالبرهان السلّميّ وبرهان المسامتة على تناهي العالم الجسمانيّ في الواقع. وفيه تأييد لكون الكم اعتباريّاً كما أشرنا إليه سابقاً.(2)

الفصل الحادي عشر

169 ـ قوله «قال صدر المتألّهين...»

وقال في تعليقته على الشفاء: «إنّ المشهور في تعريف الكيفيّة أنّها هيئة قارّة لا يوجب تصوُّرها تصوُّرَ شيء خارج عنها وعن حاملها ولا يقتضي قسمة ولا نسبة».(3) وزاد في الأسفار كما في المباحث المشرقيّة قوله «في أجزاء حاملها»(4). ثمّ إنّ الرازيّ أورد على هذا التعريف سبع إشكالات، وقال بعدها: «ولعلّ الأقرب أن يقال: الكيف هو العرض الذي لا يتوقّف تصوُّره على تصوُّر غيره ولا يقتضي


1. راجع: القبسات: ص‌‌185ـ187.

2. راجع: هذه التعليقة: الرقم 160 و 161.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌59؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌121؛ والتحصيل: ص‌‌393.

4. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌257.

القسمة واللاقسمة في محلّه اقتضاءً أوّليّاً».(1) ونقل في الأسفار والتعليقة تلك الإشكالات، ثمّ قال: يمكن الجواب عن أكثر هذه الإيرادات.

170 ـ قوله «معروضاتها التي هي الكيفيّات»

الظاهر أنّ مراده بعض معروضاتها، فإنّ جميع معروضات المقولات النسبيّة ليست هي الكيفيّات، وزاد في تعليقته على الشفاء «والكميات» وقال في المباحث المشرقيّة «معروضاتها التي هي في الكيفيّات».

الفصل الثاني عشر

171 ـ قوله «في الكيفيّات المحسوسة»(2)

وتسمّى أيضاً الانفعالات والانفعاليّات. ومطالب هذا الفصل تشكّل تفسيراً فلسفيّاً لآراء طبيعيّة قديمة انكشف فساد أكثرها بفضل تقدّم العلوم الطبيعيّة وبمعونة الأجهزة والأدوات الحديثة. وأمّا الآراء الطبيعيّة الحديثة فتستدعي تفسيراً فلسفيّاً آخرَ يتوقّف على تبيين تلك الآراء ومعرفة قيمتها العلميّة، وهو أمر لا يسعنا الغور فيه بالفعل.

172 ـ قوله «الحَرافة»

وهو طعم يلذع اللسان كطعم الفلفل.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌261.

2. راجع: الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌122ـ126؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌64ـ104؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌265ـ315؛ والتحصيل: ص‌‌394ـ395.

173 ـ قوله «والعفوصة والقبض»

وهما متقاربان، وجعلوا الفرق بينهما أنّ الأوّل يقبض ظاهر اللسان، والثاني باطنَه.

174 ـ قوله «الخشنونة والملاسة»

وجعلهما في الأسفار(1) من باب الوضع، لأنّ حقيقة معناهما هو اختلاف الأجزاء واستواؤها في الوضع. وأمّا الصلابة واللين فقد جعلهما من باب الكيفيّات الاستعداديّة، لأنّ الأوّل استعداد طبيعيّ نحو اللاانفعال، والثاني استعداد طبيعيّ نحو الانفعال والانغمار.

الفصل الثالث عشر

175 ـ قوله «في الكيفيّات المختصّة بالكميات»(2)

بناء على كون الكم من المعقولات الثانية يمكن جعل الكيفيّات المختصّة بالكميّات المتّصلة من أعراض الجسم الطبيعيّ، وينتزع عن جميعها مفهوم المقدار، وأمّا الكيفيّات المختصّة بالعدد فهي أوصاف اعتباريّة كنفس العدد.

176 ـ قوله «وكذا السطح المستوي وغيره»

يعني أنّ بين السطح المستوي والسطح المنحني أيضاً تخالفاً نوعيّاً، وقوله «وأيضاً غيره لما يخالفه» يعني أنّ بين أنواع السطح المنحني أيضاً تغايراً نوعيّاً، كالسطح


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌84 و 108؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌318.

2. راجع: الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌403؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌414428؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌162ـ183.

المقعّر والسطح المحدّب. وقوله «وكذا الأجسام التعليميّة لما يخالفها» يعني أنّ كلَّ نوع من أنواعها يباين النوع الآخر كالكرة والاُسطوانة والمكعّب وغيرها. ويمكن أن يراد التباين بين الأجسام التعليميّة والسطوح والخطوط.

177 ـ قوله «يعلم بالتذكّر»

قد مرّ منه وجود الكم المنفصل في المجرّدات، ولازمه وجود الكيفيّات المختصّة به فيها أيضاً. وقد منع صدر المتألّهين عروضه للمفارقات،(1) والأمر سهل بناءً على كونه اعتباريّاً.

الفصل الرابع عشر

178 ـ قوله «وتسمَّى أيضاً القوّة واللاقوّة»(2)

قد أشرنا سابقاً إلى معاني القوّة والإمكان والاستعداد،(3) والمراد هنا بالقوّة المقاومة واللاانفعال كالمصحاحيّة، والمراد باللاقوّة الانفعال وعدم المقاومة كالممراضيّة. وأمّا القوّة بمعنى مبدئيّة التأثير والفعل فهو خارج عن الكيفيّة الاستعداديّة كما سيأتي في المتن.

179 ـ قوله «استعداد شديد»

قد أورد في الأسفار ايراداً على هذا التعريف هو أنّ الاستعداد من باب المضاف


1. راجع: الاسفار: ج4، ص‌‌62.

2. راجع: الفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌161 و 165؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌315؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌104.

3. راجع: هذه التعليقة: الرقم 132.

لا الكيف(1) (ومن الواضح أنّه لا يصحّ أخذ مقولة في تعريف ما هو من مقولة اُخرى). ويمكن دفعه بأنّ الاستعداد من قبيل الكيفيّات ذات الإضافة لا من قبيل الإضافات.

ثمّ إنّ تقييد الاستعداد بالشديد أو الكامل ـ كما وقع في كلام الشيخ ـ يُخرج الاستعداد الضعيف عن التعريف، فيقع السؤال: من أيّ المقولات هو؟ وينقدح هناك سؤال آخر، وهو أنّ مفهوم الشدّة مفهوم مشكّك، فهل يعتبر أشدُّ مراتب الاستعداد أوّلاً؟ فإن كان الأوّل كان الأولى تقييد الاستعداد بالأشدّ دون الشديد، وإن كان الثاني فما هو النصاب المعتبر فيه؟

الفصل الخامس عشر

180 ـ قوله «وإذ كانت النسبة...»

قال بهمنيار: «والانفصال بين الحال والملكة انفصال بأعراض لا بفصول داخلة في طبيعة الشيء، بل الحال بينهما كالحال بين الصبيّ والرجل».(2) وقال الرازيُّ: «والافتراق بينهما افتراق بالعوارض لا بالفصول ـ إلخ ـ »،(3) وحكاه في الأسفار ثمّ قال: «من أراد أن يعرف فساد هذا القول فينبغي أن ينظر في أمر الحال والملكة في باب العلم، فإنّ الحال هو الصورة الحاصلة، وهي من الأعراض التي موضوعها النفس. وأمّا إذا صار العلم ملكة فلابدّ أن يتّحد النفس بجوهر عقليّ وبه يصير جوهراً فعّالاً لمثل تلك الصور وأمثالها ـ إلخ ـ».(4) وهو مبنيّ على اعتبار المرتبة


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌105.

2. راجع: التحصيل: ص‌‌394.

3. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌319.

4. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌110.

الشديدة والمرتبة الضعيفة نوعين متخالفين ـ حسب ما أشار إليه الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) ـ لكن يتّجه عليه اعتبار المراتب المتوسّطة أيضاً أنواعاً متخالفة، فتفطّن.

وأمّا بناء على كون الوجود ذا مراتب مشكّكة وكونه قابلاً للاشتداد كما هو الحقـ فيمكن القول بكون الجميع مراتب حقيقة واحدة. وأمّا قدرة النفس على إصدار الصور العلميّةبعد ما صار العلم ملكة لهفليس يكفي دليلاً على كون هذه الملكة جوهراً عقليّاً، بل يكفي لتبيينه تكامل جوهر النفس، خاصّةً بالنظر إلى ما ذهب إليه صدر المتألّهين وتبعه عليه الاستاذ(دام‌ظله‌العالی) من كون العرض من مراتب وجود الجوهر، فتبصّر.

181 ـ قوله «فمنها الإرادة»

استيفاء البحث عن الإرادة وما يتعلّق بها يستدعي وضع رسالة مستقلّة، ونرجو من‏الله تعالى أن يوفّقنا لذلك إن شاء الله العزيز. وقد تعرّض له فحول العلماء وأكابر الحكماء في مسفوراتهم منهم الشيخ الرئيس وصدر المتألّهين واُستاذه.(1) وقد أشار الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) هنا إلى جوانب منه: أحدها مفهوم الإرادة، وثانيها مغايرتها للشوق، وثالثها مبادئ الإرادة، ورابعها عدم كونها إراديّة، وخامسها كونها من لوازم العلم الذي هو متمّم لفاعليّة الفاعل العلميّ، وسادسها ملاك اختياريّة الفعل.

ونركّز ههنا على عدّة نقاط هامّة فقط، فنقول: إنّ الإرادة قد تستعمل بمعنى قريب من الحبّ والرضا كقوله تعالى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَة»(2) يعني تحبّون عرض الدنيا وترضون بها ولكن الله يرضى لكم الآخرة، والإرادة بهذا


1. راجع: الفصل السابع من المقالة الثامنة، والفصل الاول من المقالة العاشرة من إلهيّات الشفاء وراجع: تعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌160ـ164؛ وراجع: القبسات: ص‌‌309ـ343 و 444 و 473؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌220 و 253 و260؛ وج3: ص‌‌211؛ وج4: ص‌‌113؛ وج6: ص‌‌323؛ وراجع: الاخلاق إلى نيقوماخوس: ج‌1، ص‌‌265ـ274.

2. سورة الأنفال، الآية 67.

المعنى كيف نفسانيّ في ذوي النفوس، ويقابلها الكراهة؛ وقد تستعمل بمعنى الطلب التشريعيّ ويقال لها «الإرادة التشريعيّة» التي تتجلّى في الأوامر والنواهي؛ وقد تستعمل بمعنى إجماع العزم المستتبع لحركة العضلات ـ إذا تعلّقت بالأفعال البدنيّة ـ ولا يضادّها شيء. والإرادة بهذا المعنى هي معركة الآراء، وذهب كثير منهم إلى أنّها هي الإرادة بالمعنى الأوّل، ولهذا فقد عرّفوها بالشوق المؤكّد، وذكروا أحكامها في باب الكيف النفسانيّ.

قال صدر المتألّهين: «والحقّ أنّ التغاير بينهما بحسب الشدّة والضعف لا غير، فإنّ الشوق قد يكون ضعيفاً ثمّ يقوى فيصير عزماً».(1) لكن صرّح الشيخ بالمغايرة بينهما حيث قال: «والإجماع ليس هو الشوق. فقد يشتدّ الشوق إلى الشيء فلا يُجمع على الحركة البتّة».(2) وقد يقال بإمكان تحقّقها بدون الشوق كمن يريد قطع عضو من أعضائه تحفّظاً على سلامة سائر الأعضاء وليس له شوق إلى قطع العضو. ويلاحظ عليه أنّ قطع العضو وإن لم يكن مشتاقاً إليه بالذات إلاّ أنّه مشتاق إليه بالتبع لأجل الاشتياق إلى سلامة الأعضاء التي تتوقّف على قطعه، فيتولّد من الاشتياق إلى السلامة شوق إلى أسبابه، كما تتولّد من إرادة فعل ذي أسباب إراداتٌ متعلّقة بأسبابه. قال الشيخ: «لا يمكن أن تكون حركة نفسانية لا عن شوق البتّة».(3)

ويكفي لإثبات وجود الإرادة بالمعنى الثالث ومغايرتها للشهوة والغضب والشوق، التأمّل في حالات النفس، بل هو الطريق الوحيد للكشف عن أمثال هذه الأمور، كما يكفي لإثبات مغايرتها لنفس تحريك العضلات، التأمّل في حال من يريد فعلاً بزعم قدرته عليه وهو عاجز عنه، كمن ابتلي بالفالج ولمّا يعلم به بعدُ.


1. راجع: المبدء والمعاد: ص‌‌234.

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء: ص‌‌343؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌804.

3. راجع: الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهيّات الشفاء.

وأمّا حقيقتها فالأشبه أنّها فعل اختياريّ صادر عن النفس بنوع من التجلّي، ولا يختصّ الفعل الاختياريّ بما كان مسبوقاً بالإرادة، بل يعمّ فعل الفاعل بالقصد ـ وهو المسبوق بالإرادة ـ وفعل الفاعل بالعناية والفاعل بالرضا والفاعل بالتجلّي. وملاك اختياريّة الفعل كونه صادرة عن رضى من الفاعل بغير قهر قاهر، وإن شيءت قلت: ملاكها ملاءمة الفعل لذات الفاعل العلميّ وصفاته الذاتيّة بما تشتمل على الحبّ وغيره. نعم، قد يستعمل الاختيار في مقابل الإكراه، فيختصّ بما كان انتخاب الفعل من قِبل الفاعل نفسه من دون إكراه وتهديد من غيره، كما أنّه قد يستعمل في مقابل الاضطرار فيختصّ بما كان للحصول على الغرض طرق مختلفة دون ما ينحصر في طريق واحد كمن يضطرّ لحفظ نفسه إلى أكل الميتة.

ومن هنا يظهر النظر في تفسير الاختيار والاضطرار بالإمكان والضرورة، كما يظهر النظر في ما ذكره صدر المتألّهين من إنّ الإرادة لو كانت فعلاً اختياريّاً لاحتاجت إلى إرادة اُخرى.(1)

وأمّا مبادئها العلميّة والشوقيّة فمعروفة، لكن ينبغي الالتفات إلى أن الشوق لا يختصّ بالشوق الحيوانيّ بل يشمل الشوق الإنسانيّ المتعالي بمراتبه، كما أنّ العلم لا يختصّ بالتصورّ والتصديق بل يشمل العلم الحضوريّ أيضاً. ولْيُعلم أنّ الشوق والرضا والحبّ وما يشابهها وإن كانت لا تنفكّ عن العلم إلاّ أنّها ليست نفس العلم،(2) فحيثيّة العلم هي الكشف فقط وحيثيّة هذه الاُمور هي ما يستلزم الانجذاب نحو الملائم والانسياق نحو المطلوب في ذوي النفوس. ومن هنا يظهر ما في إرجاع إرادة الواجب تعالى إلى العلم، فإن لم يكن بدٌّ من الإرجاع فالأولى إرجاعها إلى الحبّ.(3)


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌114.

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفن السادس من طبيعيّات الشفاء: ص‌‌343؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌804.

3. راجع: الفصل الثالث عشر من المرحلة الثانية عشر فى المتن.

182 ـ قوله «وقد تقدّم في البحث عن أقسام الفاعل»

بل سيأتي في الفصل السابع من المرحلة الثامنة، وراجع الفصل الثالث منها أيضاً.

183 ـ قوله «ومن الكيفيّات النفسانيّة القدرة»(1)

سيجيء تمام الكلام في القدرة في البحث عن قدرته تعالى في الفصل الثالث عشر من المرحلة الثانية عشر.

184 ـ قوله «ومن هذا الباب الخُلق»

من الكيفيّات النفسانيّة هيئات راسخة في النفس خاصّتها إغناء الفعل الإراديّ عن التروّي كالشجاعة والسخاء وغيرهما، وتسمَّى بالأخلاق.(2) وقد تخصّ الأخلاق بالملكات الفاضلة، كما أنّها قد تعمَّم تارة إلى نفس الأفعال القيميّة، واُخرى إلى الحالات الشوقيّة وغيرها من مبادئ الأفعال القيميّة وإن لم تبلغ حدّ الملكة، والمراد بها ههنا هي المَلَكات.

والملكة تحصل عادةً من تكرّر الحالات، ولهذا تطلق الأخلاق على الهيئات الراسخة في النفوس الإنسانيّة وما يشابهها بسبب تكرّر الحالات والأفعال الناشيءة منها، دون المفارقات والنفوس الفلكيّة ـ على القول بها ـ. قال صدر المتألّهين: «وكأنّه أمر حاصل عقيب تعمّل واكتساب، فليس للأفلاك والمبادئ خُلق».(3) وقال الشيخ في التعليقات: «نسبة الأفعال الجميلة إلى وجود الملكة الفاضلة كنسبة


1. راجع: الفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌162؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌473؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌111؛ وج6: ص‌‌307ـ323.

2. راجع: الفصل السابع من المقالة التاسعة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: النجاة: ص‌‌296؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌385؛ وطهارة الاعراق: لابن مسكويه، ص‌‌36؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌114؛ وراجع: النمط الثالث من الإشارات.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌115.

التأمّلات والأفكار إلى وجود اليقين. فكما أنّ التأمّلات والأفكار لا توجد اليقين بل تُعدّ النفس لقبول اليقين فكذلك الأفعال الحسنة تُعدّ النفس لقبول الملكة الفاضلة من عند واهب الصور».(1)

واعلم أنّ اعتبار الملكة كمبدء لصدور الفعل ليس بمعنى ضرورة صدور الفعل عن صاحبها ولا استغناء الفاعل عن الإرادة، قال صدر المتألّهين: «وليس الخلق أيضاً يلزمه المبدئيّة للفعل بل كونه بحيث إذا اُريد الفعل يصدر بلا صعوبة ورويّة»(2) نعم، يمكن أن يقال إنّ صاحب الملكة يلزمه غالباً إرادة الفعل، بل يمكن أن ‌تبلغ الملكة حدّاً من الشدّة والرسوخ لا ينفكّ عنه إرادة الفعل المناسب لها أبداً كما في المعصومين(علیهم‌السلام) لكن ليس معنى ذلك اضطرار الفاعل في فعله، لأنّ الاختيار لا يستلزم ترك الفعل أحياناً كما ربما يتوهَّم، بل ملاكه كما أشرنا إليه هو كون الفعل ناشيءاً عن الرضا والحبّ، كما أنّه ليس معناه عدم توسّط الإرادة بين الملكة والفعل بحيث يخرج الفعل عن وصف الإراديّة.

185 ـ قوله «ولا يسمَّى خُلقاً إلاّ إذا كان عقلاً عمليّاً»

بالنظر إلى أنّ العقل العمليَّ لم يبحث عنه في هذا الكتاب ينبغي أن نذكر بعض كلمات القوم في هذا الباب. فنقول: قد قسّموا قوى النفس الناطقة إلى نظريّة وعمليّة، فعن المعلّم الثاني أنّ النظريّة هي التي بها يحوز الإنسان علمَ ما ليس من شأنه أن يعمله إنسان، والعمليّة هي التي يعرف بها ما شأنه أن يعمله إنسان.(3) وعرّف الشيخ في الإشارات القوّة العمليّة بقوله: «هي التي تستنبط الواجب في ما


1. راجع: التعليقات: ص‌‌37.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌115.

3. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌305.

يجب أن يفعل من الاُمور الإنسانيّة جزئيّةً ليتوصّل به إلى أغراض اختياريّة، من مقدّمات أوّليّة وذائعة وتجربيّة، وباستعانة من العقل النظريّ في الرأي الكلّي إلى أن ينقل به إلى الجزئيّ».(1)

وقال في الشفاء: «إنّ للإنسان تصرُّفاً في اُمور جزئيّة، وتصرُّفاً في اُمور كليّة، والاُمور الكلّية إنّما يكون فيها اعتقاد فقط ولو كان أيضاً في عمل ـ إلى أن قال ـ فيكون للإنسان اِذَنْ قوّةٌ تختص بالاُمور الكلّية وقوّة اُخرى تختصّ بالرويّة في الاُمور الجزئيّة في ما ينبغي أن يفعل أو يترك ممّا ينفع ويضرّ، وفي ما هو جميل وقبيح وخير وشرّ، ويكون ذلك بضرب من القياس والتأمّل ـ إلى أن قال ـ فالقوّة الاُولى للنفس الإنسانيّة قوّة تنسب إلى النظر فيقال «عقل نظريّ» وهذه الثانيّة قوّة تنسب إلى العمل فيقال «عقلي عمليّ».(2)

وقال في موضع آخر: «أمّا النفس الناطقة الإنسانيّة فتنقسم قواها إلى قوّة عاملة وقوّة عالمة، وكلُّ واحدة من القوّتين تسمَّى عقلاً باشتراك الاسم أو تشابهه. فالعاملة قوّة هي مبدء محرِّك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئيّة الخاصّة بالرويّة على مقتضى آراء تخصّها ـ إلى أن قال ـ وهذه القوّة يجب أن تتسلّط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوى الاُخرى التي نذكرها حتّى لا ينفعل عنها البتّة، بل تنفعل تلك عنها، وتكون متبوعة دونها لئلاّ يحدث فيها عن البدن هيئة انقياديّة مستفادة من الاُمور الطبيعيّة، وهى التي تسمَّى أخلاقاً رذيلة، بل يجب أن تكون غير منفعلة البتّة وغير منقادة، بل متسلّطة فتكون لها أخلاق فضيلة ـ إلى أن قال ـ وإنّما كانت الأخلاق التي فينا منسوبة إلى هذه القوّة لأنّ النفس الإنسانيّة كما يظهر من بعدُ


1. راجع: النمط الثالث من شرح الإشارات، ص‌‌86ـ87.

2. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبيعيات الشفاء: ص‌‌347؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌2، ص‌‌412؛ والأسفار: ج‌9، ص‌‌82؛ وراجع: التعليقات: ص‌‌30.

جوهرٌ واحدٌ وله نسبة وقياس إلى جنبتين: جنبة هي تحته، وجنبة هي فوقه، وله بحسب كلّ جنبةٍ قوّةٌ بها تنتظم العلاقة بينه وبين تلك الجنبة. فهذه القوّة العمليّة هي القوّة التي لها لأجل العلاقة إلى الجنبة التي دونها وهو البدن وسياسته، وأما القوة النظريّة فهي القوّة التي لها لأجل العلاقة إلي الجنبة التي فوقها لينفعل ويستفيد منها ويقبل عنها، فكأنّ للنفس منها وجهين: وجه إلى البدن، ويجب أن يكون هذا الوجه غير قابل البتّة أثراً من جنس مقتضى طبيعة البدن، ووجه إلى المبادئ العالية، ويجب أن يكون هذا الوجه دائمَ القبول عمّا هناك والتأثّر منها، فمن الجهة السفليّة تتولّد الأخلاق، ومن الجهة الفوقانيّة تتولّد العلوم».(1) وقال في رسالة النفس: «والنفس الناطقة إذا أقبلت إلى العلوم سمّي فعلها عقلاً، وسمّيت بحسبه عقلاً نظريّاً. وإذا أقبلت على قهر القوى الذميمة الداعية إلى الجربزة بإفراطها والغباوة بتفريطها، أو التهوّر بثورانها والجبن بفتورها، أو الفجور بهيجانها والشلّ بخمودها فتستخرِجها إلى الحكمة والتجلّد والعفّة وبالجملة العدالة سمّي فعلها سياسة، وسمّيت بحسبه عقلاً عمليّاً».(2)

وقال صدر المتألّهين: «وأمّا النفس الإنسانيّة فتنقسم إلى عاملة وعالمة، فالعاملة هي التي بها تدبير البدن، وكمالُها في أن تتسلّط على سائر القوى الحيوانيّة ولا يكون فيها هيئة انقياديّة (انقهاريّة) لهذه القوى، بل يدبّرها على حسب حكم القوّة النظريّة. وأمّا العالمة فهي القوّة النظريّة، وهي التي بسببها صارت العلاقة بين النفس وبين المفارقات لتنفعل عنها وتستفيد منها العلوم والحقائق. فالعاملة يجب أن لا تنفعل عن قوى البدن، والعالمة يجب أن تكون دائمَ التأثّر عن المفارق ـ إلخ ـ ».(3)

وقال في موضع آخر: «أمّا العاملة فلا شكَّ أنّ الأفعال الإنسانيّة قد تكون حسنة


1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء: ص‌‌291ـ292؛ وراجع: النجاة: ص‌‌164.

2. راجع: رسائل الشيخ: ص‌‌205.

3. راجع: الأسفار: ج‌8، ص‌‌130.

وقد تكون قبيحة، وذلك الحسن والقبح قد يكون العلم به حاصلاً من غير كسب وقد يحتاج إلى كسب، واكتسابه إنّما يكون بمقدّمات يلائمها، فإذَنْ يتحقّق ههنا اُمور ثلاثة: الأوّل القوّة التي يكون بها التمييز بين الاُمور الحسنة والاُمور القبيحة. والثاني المقدّمات التي تستنبط منها الاُمور الحسنة والقبيحة. والثالث نفس الأفعال التي توصف بأنّها حسنة أو قبيحة. واسم العقل على هذه المعاني الثلاثة بالاشتراك الاسميّ. فالأوّل هو العقل الذي يقول الجمهور في الإنسان إنّه عاقل ـ إلى أن قال والثاني هو العقل الذي يردّد المتكلّمون على ألسنتهم فيقولون هذا ما يوجبه العقل أو ينفيه العقل أو يقبله العقل أو يردّه، فإنّما يعنون به المشهور في بادي رأي الجميع، فإنّ بادي الرأي المشترك عند الجميع أو الأكثر من المقدّمات المقبولة والآراء المحمودة عند الناس يسمّونه العقل. والثالث ما يذكر في كتب الأخلاق، ويراد به المواظبة على الأفعال التجربيّة والعاديّة على طول الزمان، فيكتسب بها خلق وعادة. ونسبة هذه الافعال إلى ما يستنبط من عقل عمليّ كنسبة مبادئ العلم التصوريّة والتصديقيّة إلى العقل النظريّ».(1)

وقال في التحصيل: «اعلم أنّ النفس الإنسانيّة التي ذكرنا أنّها واحدة وتتصرّف في هذه القوى تقوى على إدراك المعقولات وعلى التصرّف في القوى البدنيّة بالطبع لا بالإكتساب. وليست حقيقة النفس أنّها تقوى على هذين، فإنّ القوّة معنى عدميٌّ، والنفوس موجودة بالفعل، ولو كانت حقيقة النفس أمراً بالقوّة لما كان لها أن ‌تفعل، فيجب أن تقوى على هذين بأمر غير ذاتها بل بهيئتين، فبإحداهما تُقبِل النفس على مفيد الصورة المعقولة الذي نبيّنه من بعدُ، وهذه الهيئة تسمّى عقلاً نظريّاً؛ وبالاُخرى تُقبِل على البدن وتتصرّف في قواها، وتسمَّى عقلاً عمليّاً، لأنّ بها تعمل النفس. وإنّما يسمَّى عقلاً لأنّها هيئة في ذات النفس لا في مادّة، وهي العلاقة بين النفس والبدن،


1. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌418؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص‌‌260.

وليس من شأنها أن تدرك شيئاً بل هي عمّالة فقط. ولا يمتنع أن تكون العلاقة بين النفس والبدن بقوّة لها بدنيّة. والقوّة التي يسمّى عقلاً عمليّاً هي عاملة لا مدركة على ما ذَكرتُ ـ إلى أن قال ـ ثمّ هذه القوّة ربما كانت بالفطرة متصرّفة على مثال العقل النظريّ فتسوس البدن وقواه بحسبه، ولا محالة يكون بهيئة اُخرى لا هذه الهيئة، وتسمّى هذه الهيئة ـ إذا كانت على الصفة المذكورة ـ ملكة فاضلة. وربما كانت هذه الهيئة مذعنة للقوى البدنيّة فتكون كأنّها مَسوسة من جهتها».(1)

هذه نماذج من كلمات القوم حول العقل العمليّ، وللتأمّل فيها مجال واسع. ولا يخفى ما بينها من الاختلاف، ويتحصّل منها ثلاثة تفاسير للعقل العمليّ: أحدها أنّه قوّة تدرك الأحكام المتعلّقة بأعمال الإنسان في مقابل العقل النظريّ الذي يدرك سائر الأحكام. وخاصّة هذا التفسير عدم التركيز على الأحكام الجزئيّة. وهذا هو الذي يبدو من كلام الفارابيّ. و ثانيها أنّه قوّة تدرك الأحكام الجزئيّة المتعلّقة بالعمل (دون الكلّيات) وهو الذي يستفاد من كلمات الشيخ وصدر المتألّهين. وثالثها أنّه قوّة نفسانيّة غير مدركة لشيء، متصرّفة في القوى البدنيّة. وهو الذي صرّح به بهمنيار، ولا يخلو من غرابة. ويمكن أن يضاف إليها تفسير رابع هو أنّ العقل العمليّ يدرك الأحكام الاعتباريّة المتعلّقة بالعمل، تلك الأحكـام التي لا سبيل للبرهان إليها ـ حسب زعم هؤلاء المفسّرين ـ وإنّما تقام عليها قياسات جدليّة مبتنية على آراء محمودة ومفاهيم مستعارة من الحقائق النظريّة. ويمكن اعتبار هذا الكلام تفسيراً للمعنى الأوّل.

ثمّ الذي يستفاد من كلماتهم في ارتباط الأخلاق بالعقل العمليّ أنّها ملكات حاصلة للنفس بسبب تسلّط العقل العمليّ على القوى الحيوانيّة أو انقياده لها. نعم، في كلام صدر المتألّهين أنّ معنى العقل في كتب الأخلاق هو المواظبة على الأفعال التجربيّة والعاديّة حتّى يكتسب بها خُلق وعادة، وكأنّ كلام الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) ناظر إليه.


1. راجع: التحصيل: ص‌‌789.

186 ـ قوله «لكن اُصول الأخلاق...»

البحث عن الأخلاق ومعرفة اُصولها وتمييز الفضائل عن الرذائل وتحديد معيارها ممّا يتعلّق بالحكمة العلميّة، ولا مجال للخوض فيها ههنا. ولهم في هذه المباحث مذاهب شتّى.

وقد اشتهر بين علماء الأخلاق تقسيم الملكات الخلقيّة حسب قوى النفس إلى ثلاث شعب أصليّة(1) ـ على ما اُشير إليه في المتن ـ وانّ كلّ فضيلة فهى متوسّطة بين رذيلتين في طرفي الإفراط والتفريط، وهذا هو الذي لهج به أفلاطون،(2) وركّز عليه أرسطو،(3) حتّى اشتهر عنه أنّ معيار الفضيلة هو الوسطيّة والاعتدال، فدار النقاش طويلاً حول هذه النظريّة، ولعلّ أجود التوجيهات لها هو أنّ للإنسان قوى مختلفة تتزاحم الأفعال المتعلّقة بها، فلابدّ من إعطاء كلّ قوّة حظَّها اللائق بها (العدالة) بقدر ما لا يزاحم مقتضيات القوى الاُخرى وبنحو لا تطغى على القوى المتعالية الخاصّة بالإنسان ولا يعوقها عن بلوغ غايتها المنشودة،(4) فالتفريط يوجب الحرمان من منافع تلك القوّة وقصورها عن خدمتها الميسّرة لها، والإفراط يوجب طغيانها وتضييع سائر القوى. وهذا هو المصحّح لجعل الفضيلة وسطاً محفوفاً برذيلتين. وقد عرفت من كلامالشيخ أنّ معيار الفضيلة هو تسلّط القوّة العقليّة على القوى الحيوانيّة، وأنّ ملاك الرذيلة انقيادها لتلك القوى.(5) والحقّ أنّ معيار الفضيلة هو الإعانة على بلوغ الإنسان إلى كماله النهائيّ والقرب إلى الله تعالى، ومعيار الرذيلة هو المنع من ذلك، فتبصّر.


1. راجع: طهارة الأعراق: لابن مسكويه، ص‌‌19ـ20.

2. راجع: مقدمة الأخلاق إلى نيقوماخوس: ص‌‌5051.

3. راجع: الأخلاق إلى نيقوماخوس: ج‌1، ص‌‌230ـ231.

4. راجع: الفصل السابع من المقالة التاسعة، والفصل الأخير من المقالة العاشرة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌115.

5. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء، ص‌‌291؛ والنجاة: ص‌‌296 و307؛ والمباحث المشرقية: ج‌2، ص‌‌413؛ والأسفار: ج‌9، ص‌‌87.

187 ـ قوله «سمّيت حكمة»

قال الرازيّ: «أمّا الحكمة فهي إمّا أن تكون غريزيّة أو مكتسبة، فالحكمة الغريزيّة هي كون النفس صادقة الأحكام في القضايا الفطريّة. وهذه الحكمة الغريزيّة هي الاستعداد الأوّل لاكتساب الحكمة الكسبيّة، وللنفوس تفاوت فيها حتّى أنّ البالغ فيها إلى الدرجة العالية هو النفس القدسيّة النبويّة، وتقابلها النفس البهيميّة التي لا تنتفع بتنبيه منبّه وتعليم معلّم».(1)

وقال في موضع آخر: «وأمّا الحكمة فهي الخُلق الذي تصدر عنه الأفعال المتوسطة بين الجربزة والغباوة، وهذان الطرفان رذيلان. وظنّ بعضهم أنّ الحكمة العمليّة ههنا هي التي نجعل قسيمة للحكمة النظريّة حيث يقال: الحكمة إمّا نظريّة وإمّا عمليّة. وذلك باطل، لأنّ المراد بالحكمة العمليّة ههنا ملكة تصدر عنها الأفعال المتوسّطة بين الجربزه والغباوة، وأمّا إذا قلنا إنّ من الحكمة ما هو نظريّ ومنه ما هو عمليّ، لم نرد به الخُلق، فإن ذلك ليس جزءاً من الفلسفة، بل نريد معرفة الإنسان الملكات الخُلقية بطريق القياس أنّها كم هي؟ وما هي؟ وما الفاضل منها وما الرديء؟ وأنّها كيف تحدث من غير قصد اكتساب؟ وأنّها كيف تكتسب بقصد؟ وأيضاً معرفة السياسات المنزليّة والمدنيّة. وبالجملة المعرفة بالاُمور التي لنا أن نفعلها. وهذه المعرفة ليست غريزيّة، بل متى حصّلناها كانت حاصلة لنا من حيث هي معرفة، وإن لم نفعل فعلاً ولم نخلق خلقاً، فلا ‌تكون أفعال الحكمة العمليّة الاُخرى، ولا أيضاً الخلق، وتكون عندنا لا محالة معرفة مكتسبة يقينيّة. فالحاصل أنّ الحكمة العمليّة قد يراد بها العلم بالخُلق، وقد يراد بها نفس الخُلق، وقد يراد بها الأفعال الصادرة عن الخُلق. فالحكمة العمليّة التي جُعلتْ قسيمة للحكمة النظرية هي العلم بالخُلق. والحكمة العملية التي جُعلتْ إحدي الفضائل الخلقية الثلاث فهي نفس الخُلق وأيضا


1. راجع: المباحث المشرقية: ج‌2، ص‌‌413.

فالحكمة العمليّة بالمعنى الاوّل لا تشارك الحكمة العمليّة بالمعنى الثاني، لأنّ الحكمة العمليّة بالمعنى الأوّل ليس علماً بهذا الخلق فقط بل وبسائر الأخلاق من الشجاعة والعفّة والسياسات أيضاً، فظهر الفرق بين البابين».(1)

188 ـ قوله «ومن الكيفيّات النفسانيّة اللذّة والألم»

لا يزال كلّ إنسان يجد لذّاتٍ وآلاماً مختلفة في نفسه فلا يحتاج لمعرفتهما إلى تعريف، إلاّ أنّ تحليل معناهما ومعرفة ما يوجبهما يفيد في البرهنة على إثباتهما في غير الإنسان، أو إثبات أصناف اُخرى منهما للإنسان ممّا لم يحصل له بعدُ، كاللذّات التي تحصل للنفس من درجات القرب إلى الله سبحانه والآلام التي تحصل لها من البُعد منه، نعوذ بالله تعالى.

قال الشيخ في إلهيّات الشفاء: «واعلم أنّ لذّة كلّ قوّة حصول كمالها لها، فللحسّ المحسوسات الملائمة، وللغضب الانتقام، وللرجاء الظفر، ولكلّ شيء ما يخصّه، وللنفس الناطقة مصيرها عالَماً عقليّاً بالفعل».(2)

وقال في موضع آخر: «يجب أن يُعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّةً وخيراً يخصّها، وأذىً وشرّاً يخصّها. مثاله أنّ لذّة الشهوة وخيرها أن يتأدّى إليها كيفيّة محسوسة ملائمة من الخمسة، ولذّة الغضب الظفر، ولذّة الوهم الرجاء، ولذّة الحفظ تذكّر الاُمور الموافقة الماضية، وأذى كلّ واحد منها ما يضادّه. ويشترك كلّها نوعاً من الشركة في أنّ الشعور بموافقتها وملاءمتها هو الخير واللذّة الخاصّة بها، وموافق كلّ واحد منها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كان بالفعل، فهذا أصل. وأيضاً فإنّ هذه القوى وإن اشتركت في هذه المعاني فإنّ مراتبها في


1. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌386؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌116.

2. راجع: الفصل الأخير من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌132.

الحقيقة مختلفة، فالذي كماله أفضل وأتمُّ، والذي كماله أكثر، والذي كماله أدوم، والذي كماله أوصل إليه وأحصل له، والذي هو في نفسه أكمل فعلاً وأفضل، والذي هو في نفسه اشدُّ إدراكاً فاللذّة التي له هي أبلغ وأوفى لا محالة، وهذا أصل».(1)

وربما يتراءى من كلامه أن اللذّة هي نفس حصول الكمال، لكن ليس هذا مراد الشيخ بدليل قوله «إنّ الشعور بموافقتها وملاءمتها هو الخير واللذّة» وأصرح منه كلامه في موضع آخر حيث قال: «فإنّ اللذّة ليست إلاّ إدراك الملائم من جهة ما هو ملائم»(2) فحصول الكمال الذي هو الملائم لا يوجب لذّة ما لم يدرك.

وأتمُّ بياناته في هذا الباب ما ذكره في الإشارات بقوله «إنّ اللذّة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرِكَ كمال وخير من حيث هو كذلك، والألم هو ادراك ونيل لوصول ما هو عند المدرِك آفة وشرّ ـ إلى أن قال ـ وكلّ لذّة فإنها تتعلّق بأمرين: بكمال خيريّ، وبإدراك له من حيث هو كذلك».(3)

وحاصل مايستفاد من كلماته أنّه يعتبر في حصول اللذّة اُمور: الأوّل وجود قوّة مدركة، فلا تحصل اللذّة لغير ذوي الإدراك. والثاني حصول الملائم له. والثالث إدراك ذاك الملائم بما أنّه ملائم. فلو حصل الملائم من غير إدراك والتفات إليه لم تحصل لذّة، كما أنّه إذا أدرك ذات الملائم من غير التفات إلى ملاءمته له أو مع اعتقاده عدم الملاءمَة لم تحصل لذّة. وكيف كان فاللذّة والألم بناءً على ما يستفاد من هذه الكلمات نوعان من الإدراك، فلا يصحّ جعلهما نوعاً آخر من الكيف النفسانيّ في قبال العلم والإدراك.

وقال بهمنيار: «لا تكون لذّة وألم حيث لايكون إدراك، فإذن يجب أن يتقدّمهما


1. راجع: الفصل السابع من المقالة العاشرة من إلهيّات الشفاء.

2. راجع: الفصل الأخير من المقالة الثامنة من نفس المصدر.

3. راجع: النمط الثامن من الإشارات.

الإدراك إلى أن قالـ واللذّة تتبع إدراك الملائم، أوهي نفس الإدراك،ولا محالة تكون كمالاً للمدرِك، والألم يتبع إدراك المنافي، ولا محالة يكون نقصاناً للمدرك».(1)

ونقل الرازيّ كلاماً عن الشيخ في «الأدوية القلبيّة» ممّا يدلّ على أنّ الإدراك يغاير اللذّة مغايرةَ السبب للمسبّب، ثمّ قال: «ههنا بحث لابدّ منه، وهو أن نعرف أنّ الحالة التي نجدها من النفس التي سمّيناها باللذّة أهي نفس إدراك الملائم أو أمر مغاير لذلك الإدراك؟ وبتقدير كونها مغايرة لذلك الإدراك أهي معلول ذلك الإدراك أو معلول شيء آخر، وإن كانت لا توجد إلاّ مع ذلك الإدراك؟ فهذه اُمور لا بدّ من البحث عنها، وإلى الآن لم يصحّ عندي شيء من هذه الأقسام بالبرهان، ولكنّ الأقرب إلى الظنّ أنّ الألم ليس هو نفس إدراك المنافي»(2) وقد تصدّى في الأسفار للردّ عليه وإثبات أنّ اللذّة والألم هما نفس إدراك الملائم والمنافر.(3)

ثمّ إنّ الشيخ قال في موضع من طبيعيّات الشفاء «إنّ من الحواسّ ما لا لذّة لها في محسوسها ولا ألم، ومنها ما يلتذّ ويألم بتوسّط أحد المحسوسات»(4) وعدّ البصر والاُذن من القسم الأول، وذكر في الأسفار بحثاً طويلاً حول ذلك.(5)

ونقول: يشبه أن تكون اللذّة كيفيّة إدراكيّة حاصلة للنفس بسبب بعض علومها الحضوريّة والحصوليّة التـي تحصل لها بوسـاطة قواها الإدراكيّة ـ أعني العلم بالملائمات ـ لكنّها ليست نفس العلم والإدراك، كما أنّ الرضا والشوق أيضاً كذلك. وأمّا القوى الإدراكيّة فليس لها إلاّ الإدراك، وإسناد اللذّة إليها مجازيّ كإسناد الشوق إليها، ومن المعلوم مباينة القوى الإدراكيّة للشوقيّة. ومصحّح الإسناد هو العلاقة


1. راجع: التحصيل: ص‌‌559.

2. راجع: المباحث المشرقية، ج‌1، ص‌‌388.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌119ـ124.

4. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء: ص‌‌300.

5. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌136ـ144.

السببيّة، لكونها آلاتٍ لحصول الإدراك المؤثّر في حصول اللذّة، وكذلك الأمر في الألم. وأمّا أعضاء الحسّ كالعين والاُذن فليس لها إدراك ولا لذّة ولا ألم ولا شيء آخرُ من الكيفيّات الإدراكيّة. ومن هنا يظهر وجه عدّ اللذّة والألم نوعين مستقلّين من الكيف النفسانيّ غير العلم، فتبصّر.

وينبغي أن نشير ههنا إلى أمرين:

الأمر الاول أنّ اللذّة وإن كانت في ذوي النفوس من قبيل الكيف النفسانيّ، لكن لا يستلزم ذلك نفي حقيقتها من غير ذوي النفوس كالمفارقات والمبدء الأعلى تبارك وتعالى، فهي بمنزلة العلم الذي يعدّ من الكيفيّات النفسانيّة ويوجد حقيقته بنحو أتمَّ وأعلى في المجرّدات وفي الواجب تعالى. قال الشيخ في الإشارات: «أجلُّ مبتهج بشيء هو الأوّل بذاته. لأنّه أشدّ الأشياء إدراكاً لأشدّ الأشياء كمالاً ـ إلى أن قال ـ والأوّل عاشق لذاته معشوق لذاته، عُشق من غيره أولم يُعشق».(1)

ومن هنا يظهر أنّه يصحّ اعتبار حبّه تعالى لذاته وابتهاجه بذاته من صفاته الذاتيّة.

الأمر الثاني أنّ المشّائين اعتبروا اللذّة العقليّة الحاصلة من العلم الحصوليّ بحقائق الأشياء أشدَّ اللذات وأشرفها، فجعلوا غاية السعادة الانسانية سعة ذلك العلم وتلك اللذّة ودوامهما، لكون القوّة العاقلة أشرف القوى النفسانيّة وكون سائر القوى خادمة لها، فإنّهم وإن اعتبروا في السعادة كمال القوّة العاملة أيضاً بتهذيب الأخلاق واكتساب الملكات الفاضلة، لكنّهم حيث اعتبروها أنزل رتبةً بالنسبة إلى القوّة العاقلة لم يَسَعْهم إلاّ اعتبارُ كمالها في مرتبة دون الكمال الأقصى.

ومن الواضح قصور هذه الاُصول عن معرفة السعادة الحقيقيّة التي هي نيل درجات


1. راجع: الإشارة الأخيرة من النمط الثامن من الإشارات؛ وراجع: الفصل الأخير من المقالة الثامنة، والفصل الرابع من المقالة التاسعة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التعليقات: ص‌‌72 و 157؛ والتحصيل: ص‌‌577؛ والتلويحات: ص‌‌91؛ والمطارحات: ص‌‌501؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌136؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌263ـ264؛ والنجاة: ص‌‌245.

القرب من الله تعالى والفوز بلقائه والخلود في جواره ـ رزقنا الله تعالى ـ اللّهمّ إلاّ بتفسيرها بنوع من المعرفة العقليّة. كما أنّ تلك الاُصول عقيمة عن تبيين العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح وبين تلك السعادة المتعالية، كيف وإدراك المفاهيم لا يناط بشيء من هذا القبيل، فربما يكون بعض الكفّار المعاندين والفجّار المفسدين أعلم بدقائق الفلسفة والعلوم من بعض المؤمنين القانتين وعباد الله الصالحين.

وأمّا أتباع المشّائين من فلاسفة المسلمين فإنّهم وإن عرفوا بفضل معارف الإسلام أنّ السعادة الحقيقيّة إنّما تحصل بالتقرّب إلى الله تعالى إلاّ أنّهم لم يرافقهم النجاح في تبيين ذلك على أساس اُصول المشّائين، وكان الإشراقيّون أقرب إلى النجاح منهم.

وأمّا صدر المتألّهين فحيث ذهب إلى أنّ الإدراك العقليّ يحصل بمشاهدة الحقائق المجرّدة عن بُعد أمكنه تفسير السعادة الحقيقيّة بالمشاهدة الحضوريّة للمبادئ العالية وخاصّةً للمبدء الأعلى تبارك وتعالى، وجعلُ ذلك كمالاً نهائيّاً للقوّة العاقلة التي هي رئيسة القوى الإنسانيّة بل المرتبة العليا للنفس الناطقة ـ حسب ما قالوا ـ كما أنّه استطاع تفسير العلاقة المذكورة بأنّ الارتياض الفكريّ والعمليّ يُعدّان النفس الإنسانيّة شيئاً فشيئاً لتلك المشاهدات. لكن بالمناقشة في تفسيره الذي قدّمه للإدراك العقليّ ـ كما سيأتي في محلّه إن شاء الله تعالى ـ تفقد هذه الآراء رصيدها الفلسفيّ.

ويشبه أن يكون دور الإدراكات العقليّة في السعادة الحقيقيّة دور تهيئة الأرضيّة للإيمان والعمل الصالح، وتقوية المعارف المحتاج إليها في التقرّب إلى الله تعالى، وأن يكون الدور الأساسيّ في حصول السعادة القُصوى والكمال الحقيقيّ للإيمان بالله تعالى وتوجّه النفس إليه بالذكر والتضرع والخشوع، وتقوية ذلك بالأعمال الصالحة التي يؤتىٰ بها بقصد التقرّب إليه والتي يتبلور فيها توجّه النفس إلى ساحة

قدسه، حتّى تأخذ النفس حظّها من العبوديّة في جميع شؤونها الفرديّة والاجتماعيّة، فتتهيّأ شيئاً فشيئاً لمشاهدة أنوار جلاله وجماله وتجليّات أسمائه وصفاته، إلى أن تخرق عين القلب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة وتصير معلّقة بعزّ قدسه. وليس شيء من ذلك من فعل القوّة العاقلة المدركة للمفاهيم الذهنيّة ممّا يتيسّر للكفّار والفجّار.

والعلاقة بين العبادة وبين الوصول إلى الغاية القصوى يتبيّن بمعرفة أنّ حقيقة العبادة هي نفي الاستقلال والأنانيّة وتركيز توجّه القلب إلى ساحة قدسه تعالى فتستعدّ النفس بذلك لشهود ذاتها وحقيقة وجودها الذي هو عين الربط، ذلك الشهود الذي ينتهي إلى شهود ذي الربط، وتفصيل ذلك يحتاج إلى مجال أوسع.

ومن هنا يظهر أنّ الكمال الأقصى للنفس الإنسانيّة أرفع بكثير ممّا بلغت إليه عقول المشّائين، وأجلّ من أن تبيّنه اُصولهم. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه‏.

189 ـ قوله «والألم عدميّ»

اللذّة والألم ـ سواء كانا من قبيل الإدراك أو كانا نوعين آخرين من الكيف النفسانيّ أمران وجوديّان يتعاقبان على النفس، فينطبق عليهما حدّ الضدّين، ويكون تقابلهما تقابل التضادّ لا تقابل العدم والملكة، اللّهمّ إلاّ مجازاً باعتبار متعلّقهما، ومجرّد كون الألم إدراكاً للعدم ـ على فرض الصحّة ـ لا يجدي في جعله أمراً عدميّاً، وإلاّ لزم اعتبار العلم بالمعدوم أمراً عدميّاً مقابلاً للعلم بالموجود مقابلة العدم للملكة! ففرق جليٌّ بين نفي العلم بشيء عمَّن مِن شأنه العلم به وبين العلم بنفي شيء عن شيء من شأنه وجوده له. واتّحاد العلم بالمعلوم لا يوجب سراية جميع أحكام المعلوم إلى العلم، فإنّ هذا الاتّحاد إن اعتبر بين العلم والمعلوم بالعرض كان اتّحاداً

بحسب المفهوم، ولا ينافي كون العلم وجوديّاً بالحمل الشائع والمعلوم عدميّاً. وإن اعتبر بين العلم والمعلوم بالذات كان المعلوم بالذات موجوداً لا محالة ولو كان وجوده في ظرف الذهن. وكون هذا المفهوم عدميّاً بالحمل الأوّليّ لا يوجب حمل العدم عليه بالحمل الشائع حتّى يوجب كون العلم أيضاً عدميّاً بالحمل الشائع لأجل اتّحاده به فيعدّ عدماً للملكة.

وبهذا يظهر النظر في ما أجاب به عن الإشكال تبعاً لصدر المتألّهين.(1) لكن لكلامه تأويل آخر، وهو أنّ اعتبار الألم عدميّاً يكون بالنظر إلى حضور أمر عدميّ للنفس، فيكون علماً حضوريّاً به، ولا مجال فيه للحديث عن الفرق بين الحمل الأوّليّ والشائع. ويلاحظ عليه أنّ الأمر العدميّ بما أنّه عدمّيٌ ليس له حضور للنفس، وإنّما الحضور يكون لموضوعه الوجوديّ. مضافاً إلى أنّ الألم ليس نفس العلم بل هو كيفيّة وجوديّة علميّة.

وأمّا أصل الإشكال فهو ناشيء عن توهّم أنّ تعبير «بالذات» في قولهم «إنّ الشرّ بالذات هو العدم» وقولهم «إنّ الألم شرّ بالذات» ناظر إلى جهة واحدة، فيلزم إمّا انفساخ القول الأوّل أو الالتزام بكون الألم عدميّاً. فأجاب صدر المتألّهين بالالتزام بعدميّة الألم، وتصدّى لتوجيهه بما مرّت الإشارة إليه.

والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ التعبير المذكور في المقامين ليس بمعنى واحد. توضيح ذلك أنّ العدم بما أنّه بطلان محض ليس له موضع في دار الوجود، فجعل البطلان المحض شرّاً بالذات مساوق لنفي الشرّ بالذات مطلقاً، وبانتفاء ما بالذات ينتفي ما بالعرض أيضاً. فالمراد بأنّ الشرّ بالذات هو العدم أنّ تحليل الشرور يقضي بأنّ الشرّية وصف للموجود بما أنّه يستلزم عدماً، وبعبارة اُخرى: الخيريّة والمطلوبيّة صفة للوجود فينتزع العقل من عدم الخير وصفاً ينسبه إلى عدم الوجود.


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌126.

ثمّ إذا استلزم وجود شيء نفي كمال مطلوب سمّي ذلك الشيء شرّاً لاستلزامه عدم الكمال المطلوب. فالعلّة في شرّيته هي استلزامه لعدم ذلك الكمال، لكنّ العلّية هنا ليست بمعنى التأثير الخارجيّ، بل هي على وزان قولهم «علّة حاجة الممكن إلى العلّة هي الإمكان». وحيث إنّ العدم المضاف إلى الكمال صار سبباً لاتّصاف ذلك الشيء بالشرّية بحسب التحليل العقليّ، فهو يتّصف بالشرّية في رتبة متقدّمة على رتبة اتّصاف ذلك الشيء بها. وهذا هو المراد بكون العدم شرّاً بالذات. وأمّا اتّصاف الألم بالشرّية بالذات فإنّما هو بلحاظ كونه منفوراً بالطبع في مقابل الشرّية التي تتّصف بها بعض اللذّات لأجل استلزامها ألماً من جهة اُخرى. فالشرّية بهذا المعنى لا ينافي كون المتّصف بها أمراً وجوديّاً.

الفصل السادس عشر

190 ـ قوله «البحث الأوّل»

الغرض من هذا البحث إثبات أنّ المقولات النسبيّة ـ ومنها الإضافة ـ هيئات حاصلة للموضوع من نسب خاصّة وأنّها ليست نفس تلك النسب. وهذا قبل كلّ شيء يرمي إلى نفي كون النسبة جنساً مشتركاً بينها، وإلاّ لكانت النسبة مقولة، وكان كلّ واحد ممّا يسمَّى بالمقولات النسبيّة نوعاً منها، كما ذهب إليه شيخ الإشراق.

وقد استدلّ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) على ذلك بأنّ النسبة ليست مهيّة لأنّها لا تحمل على شيء ولا يحمل عليها شيء، فلا يصحّ عدّها من المقولات. ويمكن المناقشة فيه بأنّ النسبة إذا كانت أمراً موجوداً في الخارج كان ذا مهيّة لا محالة، لأنّ الممكن مهما بلغ مرتبة وجوده في الشدّة أو الضعف كان زوجاً تركيبيّاً مركّباً من مهيّة ووجود. وقوله «لا تحمل على شيء» ممنوع، فإنّها تحمل على النسب المكانيّة والزمانيّة وغيرهما

من أنواع النسبة حمل الجنس على أنواعها، والاستدلال بكونها وجوداً رابطاً غير مقنع للخصم، خاصّة بالنظر إلى ما مرّ من المصنّف(1) من عدم الاختلاف النوعيّ بين الوجود الرابط والمستقلّ، وصيرورة الرابط مستقّلاً بتوجيه الالتفات إليه.

ثمّ للخصم أن يمنع حصول هيئة عينيّة للموضوع زائدة على نفس النسبة ـ على فـرض قبول كون النسبة أمراً عينيّاً ـ ولو كانت حاصلة لا نطبق عليها حدّ الكيف،(2) ولا ينافي ذلك لزوم النسبة لها، لأنّ هذا اللزوم لا يستلزم اندراجها تحت اللازم. وعلى هذا فيدور الامر بين قبول النسبة كمفهوم جنسيّ بين أنواعها وجعلها هي المقولة وبين القول باعتباريّة النسبة وجميع ما يسمَّى بالمقولات النسبيّة، والأقرب هو الأخير.

191 ـ قوله «البحث الثاني»

الغرض من هذا البحث بيان ثلاثة اُمور: تعريف الإضافة، والفرق بينها وبين مطلق النسبة، والفرق بين المضاف الحقيقيّ والمشهوريّ. أمّا الأوّل فمن الواضح عدم إمكان تعريف الإضافة بالحدّ ـ بناء على كونها مقولة ـ لبساطة المقولة وعدم تركّبها من الجنس والفصل حتّى يؤخذا في حدّها. وقد ذكروا لها رسوما(3) ووقع الكلام فيها بالنقض والإبرام، والإشكال بالدور وعدم كونها أعرف من المعرَّف. وترى المصنّف(دام‌ظله‌العالی) بعد ما ذكر لها من التعريف يقول: «ولعلّ المعقول من لفظ الإضافة مشفّعاً ببعض ما له من الأمثلة أعرف عند العقل ممّا أوردناه من الرسم».

وأمّا الفرق بين الإضافة ومطلق النسبة فهو أنّ النسبة فيها متكرّرة بخلافها في


1. راجع: الفصل الثاني من المرحلة الثالثة.

2. راجع: المقاومات: ص‌‌148.

3. راجع: المقالة الرابعة من قاطيغورياس الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌31، و ص404-412؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌430؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌189ـ192 و 198ـ200.

سائر المقولات.(1) وكان ينبغي له أن يعيد ههنا ما ذكره في البحث السابق أنّ الإضافة ليست هي نفس النسبة المتكرّرة بل الهيئة الحاصلة منها. وأمّا الفرق بين المضاف الحقيقيّ والمشهوريّ فبأنّ المضاف الحقيقيّ هو نفس الإضافة أو مفهوم المضاف،(2) ويقابله ذات الموضوع المعروض للإضافة أو الذات مع الإضافة، وهو المضاف المشهوريّ.

191 ـ قوله «البحث الثالث»

قال الشيخ في إلهيّات الشفاء: «هل الإضافة في نفسها موجودة في الأعيان أو أمر متصوّر في العقل، ويكون ككثير من الأحوال التي تلزم الأشياء إذا عُقلتْ بعد أن تحصل في العقل اُمور لم تكن لها من خارج فتصير كلّية وذاتيّة وعرضيّة، ويكون جنس وفصل، ويكون محمول وموضوع وأشياءُ من هذا القبيل».(3)

وقال الرازيّ: «من الناس من زعم أنّها غير موجودة في الأعيان بل هي من الاعتبارات الذهنيّة كالكلّية والجزئية واحتجّ عليه باُمور خمسة» ثمّ ذكر تلك الحجج وقال في آخر كلامه «وأمّا أدلّة النفاة فليست في غاية القوّة، ولنا فيها نظر».(4)

والظاهر من كيفيّة طرح المسألة في كلام الشيخ والرازيّ أنّ الإضافة هل هي من المعقولات الثانية المنطقيّة (كالكلّية والذاتية) أو لا؟ والحقّ في الجواب هو النفي، ولا يحتاج ذلك إلى مزيد من التأمّل في المفاهيم الإضافيّة، حيث إنّها ناظرة


1. راجع: التحصيل: ص‌‌409؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌166؛ والمقاومات: ص‌‌143؛ والمطارحات: ص‌‌270ـ272 و 282؛ وشرح المنظومة: ص‌‌192.

2. راجع: التحصيل: ص‌‌411؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌429؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌188 و 199؛ وراجع: تعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء، ص‌‌146.

3. راجع: الفصل الأخير من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء.

4. راجع: المباحث المشرقية، ج‌1، ص‌‌435439؛ وراجع: تعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء، ص‌‌149ـ153؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌200ـ203.

إلى الخارج، وتنطبق على الأشياء العينيّة ويكون الاتّصاف بها في الأعيان. لكن هذا النفي لا يستلزم كونها من قبيل المفاهيم الماهويّة حتّى يبرّر عدّها من المقولات، لجواز كونها من المعقولات الثانية الفلسفيّة التي يكون عروضها في الذهن واتّصافها في الخارج، كمفاهيم الإمكان والوجوب والمهيّة والعرض وغيرها.

قال صدر المتألّهين: «واعلم أنّ كثيراً من الأشياء ما هي موجودة لا بوجود مستقلّ كمفهوم العرض ومهيّة الجنس والفصل البسيط، فإنّ أمثال هذه الأشياء لا توجد بوجودات مستقلّة. ومن هذا القبيل الإضافات والنسب ـ إلى أن قال ـ وهذا بخلاف الاُمور الذهنيّة كقولنا الحيوان جنس، والإنسان نوع، فإنّ الجنسيّة والنوعيّة وما أشبههما ليست من الأحوال الخارجيّة التي تثبت للأشياء في الأعيان بل في الأذهان. وبهذا يعلم فساد رأي من زعم من الناس أنّ الإضافة غير موجودة في الأعيان بل من الاعتبارات الذهنيّة كالكلّية والجزئية».(1)

وقال في موضع آخر: «ليس للإضافة وجود متقرّر كسائر الأعراض حتّى يكون حدوثها لشيء وزوالها عنه يوجب انفعالاً وتغيُّراً في ذات الموصوف بها أو في صفاته الحقيقيّة، فإنّ تجدّدها وزوالها قد يكون بسبب تجدّد أحد الطرفين بخصوصه مع ثبات الطرف الآخر، فإنّ صيرورة أاحد في المجلس ثانيَ الاثنين بعد ما لم يكن كذلك وثالثَ الثلاثة ورابعَ الأربعة وهكذا لا يوجب تغيُّراً في ذاته ولا في صفاته المتصوّرة، فكذلك تغيُّر الإضافات لا يوجب في واجب الوجود تغيُّراً لا في ذاته ولا في صفاته الكماليّة».(2)

وقال في موضع آخر: «ولا يذهب على أحد أنّ كون الشيء بحسب جوهر ذاته متعلّقَ الوجود بغيره لا يوجب كونه من مقولة المضاف بالذات، لأنّ المتضايفين


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌200.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌207.

مفهومان ذهنيّان كلّيان يُعقل كلٌّ منهما مع الآخر. وليس كذلك حال الوجودات العينيّة إذا كان بعضها مستحيل الانفكاك عن الآخر، وإلاّ لكان جميع الوجودات داخلة تحت جنس المضاف بالذات، وليس كذلك».(1)

وقال أيضاً في الردّ على قول الرازيّ بكون العلم إضافة ما هذا لفظه: «فهذا وأمثاله كيف يكون حقيقتها حقيقة الإضافة التي لا تحصُّل لها خارجاً وذهناً إلاّ بحسب تحصُّل حقيقة الطرفين».(2)

ومثلها كلمات اُخرى له في مواضع متفرّقة من الأسفار(3) وسائر كتبه، ووصف الإضافة في بعض المواضع بالاعتباريّة وعدّها من المعقولات الثانيّة كما مثّل في شرح المنظومة للمعقول الثاني الفلسفيّ بالإضافة.(4)

والعجب من صدر المتألّهين وأتباعه كيف جعلوا الإضافة من المقولات مع أمثال هذه التصريحات بكونها من قبيل مفهوم العرض وغيره من المفاهيم الاعتباريّة! ولعلّ المقولات كانت أعمَّ عندهم من المعقولات الاُولى أعني المفاهيم الماهويّة، وكانت تشمل المعقولات غير المنطقيّة، كما ربما يؤيّده تقسيم المقولات إلى وجوديّة كالكم والكيف، وذهنيّة كالنسب والإضافات.(5)

وكيف كان فالأشبه أنّ الإضافة ليست من المفاهيم الماهويّة والمعقولات الاُولى الفلسفيّة، بل هي من المفاهيم الاعتباريّة بمعنى المعقولات الثانية الفلسفيّة، ويؤيّد ذلك لحوقها للواجب تعالى وللمفارقات، وكذا لحوقها للاعتباريّات وللاُمور الذهنيّة بما أنّها ذهنيّة، كما أنّها قد تلاحظ بين الواجب والممكن، وبين الحقيقي والاعتباريّ، وبين


1. راجع: نفس المصدر: ج‌5، ص‌‌72.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌352.

3. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌391.

4. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌35.

5. راجع: المعتبر: ج‌3، ص‌‌19.

الذهنيّ والخارجيّ، وبين الموجود والمعدوم بل بين المعدومين والممتنعين. ويؤيّده أيضاً تغيُّرها بتغيّر الاعتبارات ككون الشيء ثانيَ الاثنين إذا لوحظ مع فرد آخر، وثالثَ الثلاثة إذا لوحظ مع آخرين، وهكذا. والقول بتنوّعها إلى نوعين: خارجيّ وذهنيّ أو حقيقيّ واعتباريّ، تكلّف ظاهر، اللّهم الاّ إن يراد تنوّعها باعتبار المتعلّقات.

193 ـ قوله «البحث الرابع»

إذا كانت الإضافة حاصلة من نسبة متكرّرة بين شيئين، وكانت النسبة ممّا يقوم بطرفيها استدعى فعليّةُ النسبة حصولَ الطرفين، فلا تحصل الإضافة بالفعل لشيء من طرفيها إلاّ بحصولهما بالفعل، وإذا لوحظ وجودها بالقوّة استدعت وجود طرفيها بالقوّة، وإذا لوحظت في الذهن استدعت تحقُّق طرفيها في الذهن. وهذا ممّا لا غبار عليه.

وقد استشكل على ذلك بأمرين: أحدهما تحقُّق إضافة التقدُّم والتأخّر بين أجزاء الزمان مع امتناع اجتماعها بالفعل. ولا يختصّ هذا الإشكال بأجزاء الزمان كما لا يخفى. وثانيهما تحقُّق إضافة العالميّة والمعلوميّة بين الإنسان العالم الموجود بالفعل وبين ما لم يوجد بعدُ كالقيامة ـ على ما مثّلوا به ـ. وقد يقرَّر بالإضافة الحاصلة بين العلم والمعلوم الذي لمّا يتحقّق، كما في المباحث المشرقيّة والأسفار.

أمّا من قال باعتباريّة الإضافة فهو في فسحة من أمثال هذه الإشكالات، لأنّ ظرف العروض عنده هو الذهن، فيعتبر اجتماع الطرفين فيه وإن كانا غير مجتمعين في الخارج.

وأمّا القائلون بعينيّة الإضافة فلهم أجوبة غير كافية، منها ما ذكره الشيخ في الجواب عن الإشكال الأوّل بأنّها من قبيل الإضافات الذهنيّة،(1) وتبعه على ذلك


1. راجع: الفصل الأخير من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌152؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌410؛ والمقاومات: ص‌‌142.

غيره. ونقل الرازىّ كلاماً عن الشيخ واعتراض عليه(1) وتبعه صدر المتألّهين في الأسفار.(2) ثمّ أشار إلى جواب(3) ذكر حاصله في المتن، وفيه إشارة إلى ما يمكن أن يقال بأنّ الجزئين المتقدّم والمتأخّر معانِ في آن هو الحدّ المشترك بينهما بحيث يصحّ عدّه نهاية الجزء المتقدّم وبداية الجزء المتأخّر، وبهذه المعيّة الآنيّة يبرّر اجتماع وجوديهما المتضايفين. ودفعه بأنّ أجزاء الزمان ليست من الاُمور الدفعيّة كالاتّصال والانفصال حتّى تكون لها معيّة في الآن. مضافاً إلى أنّ التقدّم والتأخر في أجزاء الزمان لا يختصّ بالأجزاء المتّصلة المشتركة في حدّ واحد.

وأمّا ما صحّ عنده من الجواب فهو أنّ معيّة أجزاء الزمان إنّما هي باتّصالها في الوجود الوحدانيّ التدريجيّ، ولا ينافي هذه المعيّة كونها غير قابلة للاجتماع بالذات، كما لا ينافي وحدة العدد كونه عين الكثرة.

وأنت خبير بأنّ الزمان بما أنّه موجود واحد ليس له أجزاء بالفعل، فلا يتّصف في هذا اللحاظ بالتقدّم والتأخّر. وإنّما يتّصف بهما بما له من الأجزاء الموجودة بالقوّة. ففرض التقدّم والتأخّر فيه يساوق فرض تحقّق الأجزاء المتكثّرة بما هي متكثّرة. فلا يفيد وحدة أجزاء الزمان لدفع هذا الإشكال. كما أنّ العدد الخاصّ بما أنّه موجود ليس إلاّ أمراً واحداً لا كثرة فيه.

ويمكن أن يفسّر كلام صدر المتألّهين هذا باجتماع أجزاء الزمان في وعاء الدهر ـ كمـا صرّح به فـي تعليقته على الشفاء(4) ـ. ويـلاحظ عليـه أنّ الدهـر ليس وعـاء المتدرّجات بما أنّها متدرّجات، فتبصّر.

وأمّا جواب الشيخ فإن أراد أنّ أجزاء الزمان تتّصف بالتقدّم والتأخّر في وعاء


1. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌431.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌193.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌202.

4. راجع: تعليقة صدر المتألّهين على ألهيّات الشفاء: ص‌‌153.

الذهن بحيث يكون الذهن ظرف هذا الاتّصاف فهو واضح الفساد، وإن أراد أنّ الذهن هو ظرف العروض فقط كان حقّاً لكنّه لا يختصّ بالإضافة الحاصلة بين أجزاء الزمان، بل يجري في سائر الإضافات أيضاً، ويؤول إلى ما ذكرنا من أنّ الإضافة من المعقولات الثانية الفلسفيّة.

أمّا الإشكال الثاني فلم يتعرّض له الشيخ في الشفاء، إلاّ أنّه صرّح في موارد بأنّ المتضايفين متكافئان في اللزوم لا في الوجود، وبتحقّق التضايف بين موجود ومعدوم.(1) وقال الرازيّ: «وأمّا العلم المتعلّق بأنّ القيامة ستكون فهو علم بحكم من أحكام القيامة وهو صفة أنّها ستكون، فهذه الصفة حاضرة في الذهن، وحضورها في الذهن لا يكون إلاّ حال كونها معدومة في الأعيان، فإذاً المعلوم حاضر مع العلم».(2)

ويرد على ظاهر كلامه أنّ الصفة لا تتحقّق قبل الموصوف، ولا في ظرف غير ظرف تحقُّقه.

وقال صدر المتألّهين: «المعلوم بالحقيقة هو الصورة الحاضرة عند العقل، والإضافة بالحقيقة بين العلم ومهيّة المعلوم، والمعلوم من القيامة أنّها ستكون لا عين وجود القيامة». ثمّ قال: «ويرد عليه شكّان: أحدهما أنّ العلم من الموجودات الخارجيّة ولهذا عدّ من الكيفيّات النفسانيّة... وليس مهيّة المعلوم بما هي معلومة من الموجودات العينيّة. والثاني أنّ العلم في الحقيقة نفس وجود مهيّة المعلوم عند العاقل، وليس بين الوجود والمهيّة تغاير حتّى يقع بينهما إضافة العلم والمعلوم» وأجاب عن الأوّل بأنّ الإضافة بين العلم والمعلوم إنّما هي من حيث كونه حكاية عن مهيّة المعلوم، وبهذا اللحاظ يكون كلاهما ذهنيّين. وعن الثاني بأنّ الإضافة بين العلم والمعلوم بالذات أمر اعتباريّ، حاصلة بين أمرين متغايرين بالاعتبار متّحدين بالذات.(3)


1. راجع: التعليقات: ص‌‌76 و 91 و 95.

2. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌432.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌194.

وهذا الجواب على التقرير الثاني ـ أعني فرض الإضافة بين العلم والمعلوم ـ ظاهر، وأمّا على التقرير الأوّل ـ أعني فرض الإضافة بين ذات العالم وذات المعلوم فيمكن تتميمه بأنّ الإضافة بينهما تكون بالعرض، فالإنسان إنّما يكون طرف الإضافة للقيامة بما أنّه عالم، كما أنّ القيامة إنّما تكون طرفاً لها بما أنّها معلومة، والعالم والمعلوم عنوانان عرضيّان، فالإضافة تكون في الحقيقة بين العلم والمعلوم بالذات. لكن بعد ذلك كلّه يبقى السؤال عن الإضافة بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض، حيث إنّ الأوّل حاكٍ عن الثاني فهما متضايفان رغم أنّهما غير مجتمعين فى الوجود. فلا مناص إلاّ بالمصير إلى أنّ عروض إلاضافة إنّما هو في الذهن وأنّ الاتّصاف بها خارجيّ فقط على ما هو شأن جميع المعقولات الثانية الفلسفيّة.

الفصل السابع عشر

194 ـ قوله «الأين هيئة حاصلة...»(1)

هذا نظير ما ذكره في الاضافة، وقد مرّ الكلام فيه، وسيعيده في البحث الثاني، وسيأتي منه التشكيك في كون الأين مقولة مستقلّة.(2)

195 ـ قوله «المكان بما له من الصفات المعروفة عندنا بديهيّ الثبوت»

لكن هذا الثبوت البديهيّ أعمُّ من كونه ثبوتاً للمهيّة أو ثبوتاً لوصف عقليّ ليس بإزائه شيء منحاز.


1. راجع: الفصل الخامس إلى التاسع من المقالة الثانية من طبيعيّات الشفاء: ص‌‌49-68؛ والنجاة: ص‌‌118ـ124؛ وراجع: المعتبر: ج‌2، ص‌‌40-69؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌217ـ257؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌39 و 217؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌358 و 378 و 413؛ والمقاومات: ص‌‌144؛ والمطارحات: ص‌‌273 و 281؛ والتعليقات: ص‌‌95 و 76.

2. راجع: الفصل السابع من المرحلة التاسعة من المتن.

196 ـ قوله «والرابع أنّه السطح الباطن»

والفرق بينه وبين القول الثالث يظهر في أنّ الرأس مثلاً يصحّ اعتباره على القول الثالث مكاناً للعمامة، بخلافه على القول الرابع حيث يلزم عليه اعتبار العمامة مكاناً للرأس. ويرد عليهما جميعاً أنّ نفس السطح بما أنّه سطح يكون من مقولة الكم، ووصف المماسّة يكون من مقولة الإضافة، والحاصل من مجموع المقولتين ليس مهيّة واحدة مستقلّة، بل هو مفهوم اعتباريّ. كما أنّ عروض الإضافة للسطح لا يجعله نوعاً خاصّاً منه حتّى يعدّ المكان نوعاً من الكم. فحاصل هذين التعريفين يرجع إلى إنكار كون المكان مهيّة عينيةّ. أضف إلى ذلك أنّ الإضافة أمر اعتباريّ كما حقّقناه.

197 ـ قوله «فيكون بُعداً جوهريّاً مجرّداً»

هذا هو القول المنسوب إلى أفلاطون، ومن المحتمل وقوع خطأ في تفسير كلامه، فلعلّه أراد بكون المكان بُعداً مجرّداً أنّه حجم الجسم المتمكّن بصرف النظر عن كونه عارضاً للجسم الطبيعيّ متّحداً به، فمرجعه إلى جعل الجسم التعليميّ مكاناً للجسم الطبيعيّ، ويكون المراد بالتجريد هنا قصر النظر على الحجم لا مفارقة المادّة التي هي من أوصاف الجواهر المجرّدة العقليّة. وكيف كان فمن الغريب اعتبار موجود مجرّد عن المادّة مكاناً للماديّات، مع أنّ نسبة المجرّد إلى جميع المادّيات على السواء، ويلزم عليه كون المكان عاقلاً لذاته، وكونه أشدّ وجوداً من المتمكّنات، إلى غير ذلك قال في القبسات (ص 164) «إن البُعد المفطور المكانيّ المجرّد قد أبطله أفلاطن بالبراهين والشريك الرئيس نقل ذلك عنه في الشفاء وشارحا الاشارات إمام المتشكّكين وخاتم المحققين نقلا عنه. ثمّ ينسب فريق من هؤلاء المختلقين إثباته إليه».

ونقول: الأشبه أن يقال إنّ المكان هو حجم الجسم بصرف النظر عن نفس الجسم، فإذا قصرنا النظر على حجم العالم الجسمانيّ ـ أو إن شيءت فقل: على بُعده

وامتداده ـ كان ذلك مكاناً للعالم، ووقوع كلّ جسم خاصّ في جزء من ذلك الحجم يعيّن مكانه ويبرّر الإشارة الحسيّة إليه. فمكان كلّ جسم خاصّ هو جزء من حجم العالم إذا أُخِذَ الحجم بعين الاعتبار مجرّداً عن الاجسام المتمكّنة

ثمّ إنّه يشكل الجمع بين قبوله الإشارة الحسّية وبين جعله أمراً غير متناه وغير ذي وضع،(1) كما أنّه يلزم على القول بكونه غير متناه، وجودُ الخلأ وراء المحدّد، وهو لا يوافق اُصولهم.

198 ـ قوله «فعلى المنكرين أن يرجعوه إلى مقولة الوضع»

ولكلامهم تأويل آخر، وهو كونه من المفاهيم الاعتباريّة المتعلّقة بالأعيان.

الفصل الثامن عشر

199 ـ قوله «والفرق بين الأين والمتى»

قال في الأسفار: «هكذا قيل وليس بسديد ـ إلى أن قال ـ فكذلك لكلّ حادث متى يخصّه ولا تكون مشتركة بينه وبين غيره.(2)

200 ـ قوله «ومنها ما هي آنيّة الوجود»

وعلى هذا فينبغي تعميم تعريف المتى بأن يقال: «هو الهيئة الحاصلة للشيء من


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌39 و 43 و 57.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌219؛ وراجع: الفصل العاشر الى الثالث عشر من المقالة الثانية من الفن الاول مـن طبيعيات الشفـاء: ص‌‌68ـ81؛ والنجاة: ص‌‌115؛ والتحصيل: ص‌‌360 و 422 و 453 و 464؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌642678؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌115ـ181؛ والمطارحات: ص‌‌279؛ والمعتبر: ج‌2، ص‌‌69ـ80؛ وج3، ص‌‌35.

نسبته إلى الزمان أو الآن» كما في التحصيل (ص 414)، لكن لِيُعْلَم أنّ الاُمور الآنيّة ليس لها وجود منحاز، كما أنّ نفس الآن كذلك.

الفصل التاسع عشر

201 ـ قوله «الوضع هو الهيئة الحاصلة...»

قال الشيخ في التعليقات: «الوضع هو نسبة أجزاء جملة الشيء بعضها إلى بعض، مأخوذةً مع نسبتها إلى الجهات الخارجة عنها: كانت تلك الجهات حاوية أو محويّة».(1)

وقال تلميذه في التحصيل: «وهو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان، مثل القيام والقعود وبالجملة هو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه نسبة إلى حاويه ومحويّه. وبعبارة اُخرى: الوضع هيئة كون الشيء ذانسبة لبعضه إلى بعض في الجهات المختلفة. وتلك النسبة للأجزاء إضافة، ووضع للكلّ».(2) وقال في موضع آخر: «هو كون الشيء ذانسبة لبعضه إلى بعض في الجهات المختلفة».(3)

وقال شيخ الإشراق: «هو كون الجسم بحيث يكون لبعض أجزائه إلى بعض نسبة مختلفة بالجهات».(4) وقال في موضع آخر: «هو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الجهات المختلفة، كالقيام والقعود».(5) ومثله في الأسفار.(6)


1. راجع: التعليقات: ص‌‌43.

2. راجع: التحصيل: ص‌‌33ـ34.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌415.

4. راجع: المقاومات: ص‌‌144.

5. راجع: المطارحات: ص‌‌275.

6. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌220.

وقال الرازيّ: «هو هيئة تحصل للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض، نسبةً تتخالف الأجزاء لأجلها بالقياس إلى الجهات في الموازاة والانحراف، مثل القيام والقعود والاستلقاء والانبطاح».(1)

وليس في شيء من هذه التعاريف ذكر من نسبة مجموع الأجزاء بما أنّها كلٌّ واحدٌ إلى الخارج، وأمّا ما ذكر في التحصيل من أنّ تلك النسبة للأجزاء إضافة، وللكلّ وضع، فالمراد به أنّ الهيئة الحاصلة للكلّ من نسبة بعض أجزائه إلى بعض هي الوضع. وكذا المراد من النسبة إلى الحاوي والمحويّ هو النسبة بين كلّ واحد من الأجزاء وبين الحاوي والمحويّ، لا نسبة الكلّ إليهما. فإنّ الوضع يتغيّر بتغيّر نسبة كلّ واحد من الأجزاء إلى الخارج ولا يتوقف على تغيّر نسبة المجموع إليه. وليس يتعيّن اعتبار النسبة إلى الحاوي في كلّ وضع، فإنّ الفلك الأقصى لا يوجد وراءه خلأ ولا ملأ ـ حسب ما زعموا ـ فليس لأجزائه المفروضة نسبة إلى الحاوي، بل إلى المحويّ فقط، بل ليس يلزم اعتبار النسبة إلى المحويّ أيضاً، لصحّة اعتبار الوضع للفلك بمـا يحتوي عليه ـ أي لكلّ العالم الجسمانيّ ـ مع أنّه لا حاوي ولا محويّ له.

قال في حاشية شرح المنظومة ما حاصله أنّ اعتبار نسبة الأجزاء إلى الخارج ضروريٌ، وإلاّ لم يكن فرق بين القيام والانتكاس، لا نحفاظ نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض في الصورتين.(2) ويلاحظ عليه أنّ النسبة تتغيّر بتغيّر جهة الأجزاء فتبصّر.

202 ـ قوله «وينقسم إلى ما بالفعل وما بالقوّة»

قال في التحصيل: «والوضع قد يكون بالقوّة مثل ما يقال إنّ الدائرة التي حول قطب


1. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌455.

2. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌139.

الرحى أصغر من طوقها. وذلك لأنّ الدائرة التي حول القطب غير موجودة بالفعل حتّى تكون قريبة بالقطب أو بعيدة منه».(1)

203 ـ قوله «وأمّا الشدّة...»

ذكر في الأسفار إشكالاً في الجمع بين قبول الاستقامة والانحناء للشدّة والضعف ـ كما قالـوا ههنـا ـ وبين ما ذكـروا في باب الكم أنّ الاستدارة والتحديب لا يقبل الاشتداد والتضعّف. ودفعه بأنّ الكم إذا كان مجرّداً عن المادّة لا يقبل الاشتداد أو الضعف، إذ لا مادّة هناك حتى يقبل التبدّل، بخلاف الكم الواقع في مادّة مخصوصة. وقال في آخر كلامه: «فالا نحناء الطبيعيّ يقبل الأشدّ دون التعليميّ، وهذا من مقولة الوضع دون ذلك. فاعلم هذا، فإنّه شيء يغفل عنه الأكثرون».(2)

والظاهر أنّ مراده بالكم المجرّد ههنا هو الذي لوحظ مستقّلاً عن المادّة لا المجرّد في الواقع، ولذا فرّع عليه أنّ التعليميّ لا يقبل الأشدّ. وإذا كان هذا هو المراد فيرد عليه أنّ تجريد الكم عن المادّة اعتباراً لا ينافي حلوله فيها واقعاً. ولو كان المراد المجرَّد الواقعيَ لم يرد عليه هذا الإشكال لكنّه لم يستقم التفريع والمقابلة بين الطبيعيّ والتعليميّ. مضافاً إلى أنّ الفلاسفة لم يفرّقوا بين الكم المثاليّ والطبيعيّ، مع أنّ المشّائين غير قائلين بالمثال أصلاً.

ويمكن أن يجاب عن الإشكال بوجه آخر، وهو أنّ الكم بما أنّه كم لا يقبل الاشتداد والتضعّف، وإنّما يقبل الزيادة والنقصان، لكن بما أنّه له كيفيّات خاصّة يشتدّ ويتضعّف، فهما في الواقع وصفان للكيفيّة.


1. راجع: التحصيل: ص‌‌415؛ وراجع: المقاومات: ص‌‌145؛ والمطارحات: ص‌‌276؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌222.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌223.

204 ـ قوله «بحيث يقال أين هو من الجهات»(1)

لا يخفى أنّ المراد بـ «أين» ههنا ليس هو مقولة الأين، بل المراد به الجهة.

الفصل العشرون

205 ـ قوله «والحقّ أنّ الملك...»

اختلفوا في مفاد اللام في قولنا «القوى للنفس» و«الفرس لزيد» أنّه من أيّ المقولات: فقيل: إنّه من مقولة الجدة التي يعبّر عنها بالملك ومقولة «له»؛ وقال صدر المتألّهين: إنّه من مقولة المضاف؛(2) وقال بعضهم إنّه جدة اعتباريّة؛ وقال الاُستاذ بخروجه عن المقولات مع الفرق بين المثالين، فإنّ الأوّل تعبير عن حيثيّة وجوديّة هي قيام وجود شيء بشيء، والآخر مفهوم اعتباريٌ من القسم الرابع من الاعتباريّات التي ذكرناها تحت الرقم (10) والحقّ أنّ أصل الجدة أيضاً مفهوم اعتباريّ، ونقل عن الشيخ التشكيك في كونها من المقولات الحقيقيّة.

الفصل الحادي والعشرون

206 ـ قوله «من جملة ما له من الحركة»

قال في الأسفار: «وأمّا الحالة التي تقع للفاعل المتجدّد عند انقطاع تحريكه، وللمنفعل عند انقطاع تحرّكه، كالقطع في نهاية الحركة، واحتراق الثوب بعد استقراره، فهل تكونان من هذين البابين أم لا؟ فنقول: هما من حيث تخصيصهما


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌222.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌223.

بأنّهما في نهاية الحركتين يصحّ عدّهما من هاتين المقولتين، وكذا الحال في جميع ما يقع في حدود الحركة وأطرافها الدفعيّة. وإذا لم يعتبر تخصيصهما كذلك فليسا من المقولتين».(1) ولا يخفى أنّ اعتبار شيء دفعيّ من المقولة المتقوّمه بالتدرّج كيفما فرض لا يخلو من مسامحة كاعتبار الآنيّات من الزمانيّات.

207 ـ قوله «وأمّا الإشكال في وجود المقولتين...»

هذا الإشكال هو الذي أورده الرازي(2) ونقله في الأسفار.(3) وحاصل الجواب أنّ التأثير والتأثّر موجودان في الخارج بنفس وجود المؤثّر والمتأثّر لا بوجودين منحازين. ومآله إلى كونهما من المعقولات الثانية دون المقولات الماهويّة. فالحقّ أنّ هاتين المقولتين تعبيران عن نحو من العلّية والمعلولية مما يختص بالماديّات ويتمُّ بالحركة. ودعوى حصول هيئة حقيقية للفاعل والمنفعل غير مسموعة.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌224.

2. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌456458.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌225ـ228.

آدرس: قم - بلوار محمدامين(ص) - بلوار جمهوری اسلامی - مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمينی(ره) پست الكترونيك: info@mesbahyazdi.org